في زحمة الأحداث المؤلمة، وبالرغم من ضخامة هذه الأحداث والتطوُّرات، يعود السؤال الأثير الذي يقلق كلّ كاتب محترف: لماذا أكتب وعن ماذا ولمن؟.
يشتكي الكتّاب والمحلّلون والنشطاء السياسيون في بلادنا، وكل الوقت من أنّ مستويات اتخاذ القرارات في الساحة الفلسطينية عموماً، فصائل كانوا أو سلطات، لا ينتظرون الأفكار التي يقدّمها، ويجتهد لتقديمها، من يكرّسون حياتهم وعقولهم وأفكارهم لإصلاح الأحوال، وتطوير آليات اتخاذ القرارات.
وفي هذه الأوقات العصيبة، أيضاً، لم تتغيّر الأحوال، وربما بلغت الأوضاع حدّاً تصعب معه مراجعة ما مضى، وتصحيح بعض القرارات والسياسات والمبادرات، فلقد تجاوزت الأحداث ذلك.
ولا أظنّ، أيضاً، أنّنا نكتب لكي نحثّ الناس على الصبر والصمود، والتفاؤل بالمستقبل، بعد أن غرق الناس في أحزانهم وآلامهم التي لا توصف.
ثمة من يكتب لتسجيل مواقف للتاريخ، لن تنفع أحداً، طالما أنّ الأفراد لا يصنعون حدثاً، وأنّ ما يسجّله هؤلاء يضيع بين مئات وربّما آلاف الصفحات التي سيفردها التاريخ لهذه الأحداث الضخمة والرهيبة.
ما يحدوني لمثل هذا الحديث هو أنّ بعض من ينتمون إلى النخبة السياسية، والاجتماعية والأكاديمية، يقعون في أخطاء ينتقدونها عند الآخرين ولا يبالون إزاء الآثار المترتّبة على قراءاتهم وآرائهم ومواقفهم.
بعض هؤلاء هبط إلى مستوى تفكير عامّة الناس، وتنازل عن دوره عَبر تغريدات تحاكي حالة من اليأس، ودغدغة عواطف بعض الناس من المكلومين وهم كُثر.
وبعض هؤلاء ظلُّوا متمترسين حول أفكار وتقييمات قديمة، فتراهم يضيعون بين الفكرة ونقيضها في الوقت ذاته.
لكن الأسوأ من هؤلاء، من ينتقد بشدّة الانقسام في الساحة الفلسطينية ويُحاكم الأحداث، والتطوُّرات على أساس ذلك، وكأنّ تحقيق التوافق الوطني كان ممكناً قبل 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وأنّ من خالف ذلك يستحقّ اللعنة.
إن كان ما نكتب لا يحقّق الأغراض الحقيقية المتوخّاة، فإنّ على هؤلاء في أقلّ تقدير، عدم تقديم ذرائع، لمن خذلوا فلسطين والفلسطينيين من العرب والمسلمين فإذا كان الفلسطيني يقول ما يقوله هؤلاء فليس علينا أن نلوم المقصّرين، والمتخاذلين والمتواطئين والمساهمين في العدوان الإسرائيلي الجاري في قطاع غزّة والضفة الغربية والقدس.
والآن، ما هي الخيارات التي كانت متاحة أمام الفلسطينيين قبل «طوفان الأقصى»؟ هل كان بالإمكان، لمن يسعى حقّاً لتحرير البلاد وإنجاز المشروع الوطني أن يحقّق ذلك، من خلال التسويات والعمل السياسي والدبلوماسي فقط؟
دون أن نجلد أنفسنا، الجواب السريع، ودون الادعاء بأنّه جواب الأغلبية أو الأقلية، الجواب هو محصّلة ثلاثين عاماً منذ توقيع «اتفاقية أوسلو» والنتيجة أصبحت معروفة.
وهل يمكن للمقاومة الفلسطينية وحدها، في ضوء ميزان القوى المختلّ لصالح المحتلّ أن يحقّق المشروع الوطني أهدافه، كان الجواب ولا يزال وبتحفُّظ: لا، خاصة في ظلّ الانقسام الفلسطيني؟
كان الأفضل بالطبع أن يخوض الفلسطينيون نضالهم التحرُّري، عَبر استخدام كافّة الوسائل الكفاحية، والسياسية والدبلوماسية والثقافية والحضارية، ومن خلال مؤسّسات وطنيّة موحّدة، ولكن ذلك لم يحصل لأسباب عديدة.
هل يعلم الجميع أنّ ما حصل بعد «طوفان الأقصى» كان سيقع بمبادرة من دولة الاحتلال ومن يشاركها حتى لو لم يحصل ما حصل في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 أم أنّ ذلك مجرّد تبرير غير منطقي؟
يعلم الجميع أن حكومة بنيامين نتنياهو قد وضعت نصب عينيها قراراً بحسم الصراع، وأنّها كرّست إمكانياتها في الضفة الغربية والقدس، فهل نسي الناس حوّارة وجنين ونابلس، وتسليح المستوطنين والتغوّل على كلّ ما يرمز لفلسطين والفلسطينيين.
الحرب الإجرامية كانت مستعرة في الضفة كلّ الوقت، وكانت دائرتها تتّسع يوماً بعد الآخر، والاستيطان لم يتوقّف عن مصادرة الأخضر واليابس على أرض الضفة.
أصلاً، الإعلانات الأولى «لمجلس الحرب» الإسرائيلي والشركاء، فضحت المخطّط الذي كان يسعى لتهجير سكّان القطاع إلى سيناء والضفة إلى الأردن. طبعاً الأحداث تجاوزت ذلك، ولكن إلى حين..!
سؤال آخر أُجازف بطرحه، هو هل توقّع أو يتوقّع الفلسطينيون أن تبادر المنظومة العربية لتقديم المساعدة، سلاحاً أو مالاً أو أيّ إمكانيات للفصائل الفلسطينية، حتى تكون أمامها خيارات، أم أنها كانت أمام خيار واحد وحيد، هو الذي يتعرّض هذه الأيّام للانتقاد من قبل بعض النُّخَب؟
لقد استبقت فصائل المقاومة، المبادرة الإسرائيلية بما قامت به يوم «طوفان الأقصى»، وبطريقة يسجّل لها نجاحاً تاريخياً غير مسبوق خلال مرحلة الصراع الطويلة.
قبل «طوفان الأقصى» كانت مقاومة الفصائل محلّ انتقاد، خصوصاً حين كانت تعلن الانتصار خلال مواجهة العدوانات المتكرّرة على القطاع، كان التساؤل الذي يجري على ألسنة الجميع: هو ما هي هذه المقاومة المكلفة دون أي نتائج سياسية أو غير سياسية، وأنّ الناس يدفعون أثماناً باهظة لقاء لا شيء، إلّا لتعزيز الانقسام، وتعزيز السلطات.
ولكن ما الذي يقوله المشهد، بعد أكثر من مئتي يوم من الحرب الدموية التي تشنُّها دولة الاحتلال وحلفاؤها، وهي الأطول منذ قيامها العام 1948 حتى الآن؟ دون الخوض في الآثار والنتائج الهائلة والإستراتيجية التي حقّقها الشعب الفلسطيني، فهذه لها مقام آخر، فثمة صمود للشعب، وصمود للمقاومة، وفشل ذريع لمن يشنُّون هذا العدوان الذين لم يحقُّقوا حتى الآن أيّاً من أهدافه.
ما حقّقه الاحتلال وحلفاؤه، هو الدمار والقتل والجرائم بالجملة، وهو في المحصّلة انقلب على أصحابه، ودفعهم نحو عزلةٍ غير مسبوقة، ولا كان بالإمكان أن تتحقّق بوسائل أخرى.
ولكن ألا يعني هذا الصمود، واستمرار المقاومة لكلّ هذا الوقت أن ثمة عملية إعداد وتجهيز كانت تتم، بعيداً عن الأنظار استعداداً لمرحلة مدروسة من النضال؟
لم تعد غزّة فقط هي من تواجه حرب إبادة واقتلاع فما يحصل في جنين ومخيمها، ومخيم نور شمس وحوّارة، وبقيّة مدن وقرى فلسطين يؤكّد على طبيعة هذه الحرب، والمخطّطات التي تقف خلفها والأهداف التي تسعى لتحقيقها.
في الخلاصة، ما وقع كان سيقع من قبل الاحتلال والثمن كان سيكون وهو باهظ حقّاً، ولكن الأوطان لا تتحرّر دون أثمان باهظة.