في صبيحة السابع من أكتوبر، وبعد تواتر صور وأخبار الهجوم المظفر وإطلاق تسمّية «طوفان الأقصى» على العملية النوعية التي أربكت الجميع.. بدأت الأغلبية الساحقة من الناس تشعر بالفخر، وتعيش حالة من النشوة، وبمعنويات تعانق السماء، وتوقعات كبيرة أقلها تبييض السجون، وإطلاق سراح جميع الأسرى، وأعلاها سقفاً وصلت حد التصديق بأن العودة باتت وشيكة، وأنَّ نهاية الكيان صارت قاب قوسين أو أدنى، وكانت التوقعات والتحليلات في الأغلب تشير إلى بدء حالة نهوض ثورية ستغير الواقع جذرياً، وأن المقاومة ستواصل هجومها، وجماهير الأرض المحتلة ستخرج غاضبة ومنتفضة، أما الشعوب العربية والإسلامية فستلتحق بالطوفان، وستخترق الحدود، وستسقط أنظمتها الاستبدادية، وسيدخل محور المقاومة بكل قوته، وستتغير المعادلات السياسية القائمة، وسيتلقى الكيان ومن خلفهم الأميركان هزيمتهم التاريخية.
في الأيام الأولى كانت التوقعات بأن إسرائيل ستظل مرتبكة، وستعجز عن احتواء الهجوم، وستنشغل لفترة طويلة بالخلايا المسلحة التي تحصنت في مستوطنات غلاف غزة، وأن تلك الخلايا ستوجه ضربات للعدو من الخلف، وأن ردة الفعل الإسرائيلية ستكون أعنف قليلاً (أو كثيراً) من المرات الخمس السابقة، وأنها ستدوم شهراً أو شهرين على أبعد تقدير، وستقتصر على الضربات الجوية، وستقصف أهدافاً محددة، ثم ينتهي الأمر بتفاهمات جديدة، ستكون بالضرورة لصالح الفلسطينيين، وستنهي حصار غزة، وتحرر الأسرى.
لاحظ أن الحديث عن مواصلة الهجوم، وتحرير البلاد، واستعادة الأقصى، وتدمير الكيان، قد تراجع بسرعة، وصارت التوقعات إنهاء الحصار وفرض تفاهمات جديدة مع إسرائيل.
في الأسابيع الثلاثة الأولى، جاء القصف الإسرائيلي عنيفاً لدرجة غير مسبوقة ولا معهودة، وقد طال كل شيء تقريباً، وبلا أدنى رحمة، ومع ذلك ظلت التوقعات أن العدوان سيقتصر على القصف الجوي. وقد أكد الكثير من المحللين العسكريين، وبعض قادة «حماس» أن إسرائيل لن تجرؤ على الاجتياح البري، وإن ارتكبت هذه «الحماقة»، فإن المقاومة جاهزة بعتادها ومقاتليها وأنفاقها وصواريخها وخططها العسكرية المعدة مسبقاً، وبالتالي ستكون غزة مقبرة للغزاة.
بعد عشرة أيام على بدء العدوان، اقترف الاحتلال مذبحة مروّعة في مستشفى المعمداني، سقط فيها 500 شهيد من المدنيين، وحينها ساد اعتقاد بأن ردة الفعل الشعبية والعالمية ستكون بمستوى الحدث، وأن المجتمع الدولي لن يقبل بمثل مذبحة كهذه، وسَيُدين إسرائيل ويجبرها على وقف عدوانها.. ثم تبين أنها مجرد البداية لسلسلة مذابح أشد وأفظع.
وعندما ظهرت أولى صور المقاومين وهم يلتحمون بالدبابات من المسافة صفر، ويدمرونها تباعاً، اعتقدنا بأن المقاومة ستردّ العدوان خائباً مهزوماً، وأن العدو لن يحتمل هذا العدد من القتلى والدبابات المدمرة (بحسب تميم البرغوثي تم تدمير ثلث الجيش).. ثم ظهرت أولى صور النازحين لبعض العائلات، وقد تعاملنا معها بحذر ولم نصدقها. ولما ظهرت أولى صور الخيام، قلنا: هذه دعاية مضللة يُراد منها تثبيط الهمم ودفع الناس للنزوح.
مع مرور الوقت وتوالي الأحداث، صارت صور القصف عادية، ثم صارت صور أفواج النازحين عادية، رغم أنها كانت تزداد كل مرة وبأعداد هائلة، ثم صارت صور الخيام والمخيمات عادية، بل صارت هي المنظر المألوف.. وأضيفت إليها صور الطوابير، وصور أكوام الردم والنفايات.
أتحدث هنا بصيغة الجمع، وأنا مدرك تماماً وجود استثناءات كثيرة، وأنَّ الآراء والتوقعات كانت متباينة جداً وبدرجة حادة، لكني أقصد تلك الأصوات التي كانت هي الأعلى، والأشد تعصباً، والأكثر تمسكاً بوجهة نظرها، وأتذكّر أنّ هؤلاء كانوا يغيّرون آراءهم وتوقعاتهم لكنهم ينسون كيف كانت قبلاً، وكيف تفاعلوا معها! وأتذكّر أننا بدأنا نألف المشهد، فبعد أن كنا نُصعق ونُفجع لخبر سقوط شهيد أو اثنين، بتنا الآن نألف سقوط مائة شهيد يومياً! وهذه المصيبة.. وتجاوز عدد الضحايا المائة ألف وصار مجرد رقم.
اليوم، وبعد مرور سبعة أشهر على العدوان، كلنا يعرف حجم الكارثة التي أصابت غزة: نحو خمسة وأربعين ألف شهيد ومفقود، وثمانين ألف جريح ومصاب، ومليونَي نازح، وأكثر من مائة ألف غادروا القطاع، والبقية ينتظرون وجلّ تفكيرهم منصبّ في كيفية الخروج من هذا الجحيم.. أما الدمار فقد طال كل شيء.. وقد حصلنا على نكبة جديدة.
انخفض سقف التوقعات، وتراجعت المطالب وتبدلت الأهداف، وصار المطلب الرئيس وقف الحرب (أي أنَّ من بدأ «الطوفان» يطالب بإيقافه). أدركنا أن الموجة كانت عالية جداً جداً، والمركب صغير جداً جداً، والفرق في ميزان القوى هائل جداً جداً، بل إن كل جزئية من هذا المشهد السريالي تصلح لأن نضع أمامها عبارة جداً جداً: مستوى الإجرام، حجم التدمير، عمق المأساة، المعاناة، البطولة، الصمود، الصبر، الخذلان، غباء الحسابات، سقوط الرهانات، التضليل الإعلامي، الطوابير، الحر، البعوض، الجوع، الخوف، الشجاعة، الإنسانية، الاستغلال، سقوط المجتمع الدولي، اختبار قيم الحداثة، هزيمة إسرائيل الأخلاقية.. والأهم أن تفكير الأغلبية الساحقة منا كان عاطفياً جداً جداً ومتوهّم إلى أبعد حد.
لا أتوقع أن يغير الناس إيقاع حياتهم مع استمرار العدوان، فالحياة لا بد أن تسير بشكل أو بآخر، حتى أشد الناس تأثراً بالعدوان، وأكثرهم التصاقاً بالأحداث ومتابعةً للتطورات، لن يكون بوسعهم سوى مواصلة حيواتهم، والعودة تدريجياً إلى نمط الحياة الأقرب للطبيعي، بما في ذلك أهل القطاع، ومن هم تحت القصف، وفي قلب الجحيم. سيحاول هؤلاء أيضاً التكيف.. تلك سُـنّة الحياة.. ولكن، وفي كل الأحوال يجب ألا ننسى، وألا نتجاهل، وألا نتوقف عن فعل كل ما من شأنه إيقاف العدوان، والتضامن مع أهل غزة؛ فالعدوان ما زال قائماً ومتواصلاً. الأهم أن نسمع تلك الأصوات القادمة من داخل غزة، نسمعها باحترام وإجلال، دون وصاية عليها، ودون مزايدة ولا تنظير؛ فهم الأصدق والأقرب للحقيقة، وهم أصحاب الوجع.
مع أن العدوان لم ينتهِ بعد، وربما أننا خسرنا هذه الجولة من الكفاح، وتكبدنا خسائر فادحة وتضحيات جسيمة، لكن صراعنا مع الاحتلال باقٍ، ومستمر، وأمامنا جولات أخرى دامية، قبل أن يستفيق ضمير العالم. لكننا حتماً على موعد مع النصر، ومع فجر الحرية والاستقلال.
ولعلنا نتعلم من هذه التجربة القاسية والمريرة.