رغم مرور نحو شهر ونصف على انتخاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رئيساً لبلاده لولاية خامسة، وذلك يوم السابع عشر من آذار الماضي، إلا أن تنصيبه جرى يوم الثلاثاء الماضي، تزامناً مع ذكرى دحر النازية الألمانية في العام 1945، وفي ذلك إشارة مزدوجة، أولها للجمهور الروسي، مفادها أن بوتين يواصل حربه ضد من يسميهم النازيين الجدد في أوكرانيا، والثانية موجهة للعالم، الغربي منه على وجه خاص، ومفادها أن روسيا التي أصبحت دولة عظمى، بل القطب الند للغرب، بسبب انتصارها على الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية، بعد أن كان ذلك الجيش احتل نصف أوروبا، بما في ذلك فرنسا، ستبقى كذلك دولة عظمى، ولن تكون كما تريد لها الولايات المتحدة، أن تكون مجرد عضو في منتدى عالمي، تقرر فيه أميركا وحدها مصير العالم، وتدير شؤونه على هواها.
على الجهة المقابلة من العالم، كان العدو اللدود لفلاديمير بوتين، نقصد الرئيس الأميركي جو بايدن يلقي خطاباً بنفس المناسبة، ولكن تحت عنوان، ذكرى المحرقة.
ومقابل عرض بوتين حواراً على أساس المساواة والندية مع الغرب، لتجاوز علاقة بلاده المتوترة حالياً مع أميركا وأوروبا، أكد بايدن على دعم بلاده لتل أبيب رغم وجود الخلافات، كما أشار بشكل غريب إلى أن كراهية اليهود لا تزال مستمرة مدللاً على ذلك بما حدث يوم السابع من أكتوبر الماضي، مضيفاً القول إن هناك صعوداً مرعباً لمعاداة السامية في العالم وأميركا، ومشيراً بشكل مؤكد إلى ما يدور في العالم وأميركا من احتجاجات على حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية بحق الشعب الفلسطيني!
لا يختلف منطق بايدن أو ما يقوله وما هو مقتنع به، عما يقول به المتطرفون الإسرائيليون اليوم، خاصة إزاء دوافع عملية طوفان الأقصى، وما تلاها من حرب إبادة يمارسها قادة الحرب الإسرائيليون، وهو يبدو كما لو كان أكثر تشدداً واقتراباً من بنيامين نتنياهو وجناح التطرف العنصري في الحكومة الإسرائيلية، أي أكثر قرباً من ثالوث نتنياهو - بن غفير - سموتريتش، منه إلى يائير لابيد مثلاً، وحتى من بيني غانتس وغادي ايزنكوت، ولسنا هنا بمعرض استعراض مواقف بايدن خاصة العملية إزاء الحرب الإسرائيلية منذ أن بدأت قبل سبعة أشهر وحتى الآن، وصولاً إلى إطلاق حكومة الحرب عملية اقتحام رفح.
ورغم كل ما قالته إدارة بايدن منذ أسابيع طويلة عن رفضها وتحذيرها لنتنياهو من اقتحام رفح، إلا أن إقدام نتنياهو على ذلك، يعني بكل بساطة، أحد أمرين: إما أن أميركا بقضها وقضيضها، أضعف سياسياً من إسرائيل، أي أن الحكومة الإسرائيلية هي من يتحكم بالبيت الأبيض وليس العكس، وواضح أن ذلك يعود إلى ما يتحكم به اللوبي الصهيوني من مفاتيح انتخابية بأميركا، وإما أن بايدن وإدارته أضعف من مواجهة نتنياهو الذي يمارس عليه الكذب، بحيث أنه لم يرضخ لتحذيرات الرئيس الأميركي بعدم دخول رفح، وحتى بإدخال المساعدات الإغاثية، والحقيقة التي ظهرت تماماً في كلمة بايدن في ذكرى المحرقة تشير إلى أن الرجل الذي اضطر إلى إطلاق بعض التصريحات الخلافية مع نتنياهو بهدف الحفاظ على أصوات معارضي الحرب الإسرائيلية في حزبه، مقابل الثبات على الوقوف العملي لجانب تلك الحرب سياسياً وعسكرياً، بجاهد في محاولته التفريق بين إسرائيل ونتنياهو، وهو كلما زادت شقة الخلاف مع نتنياهو، التصق أكثر بإسرائيل.
تبقى المفارقة في إطلاق حكومة الحرب الإسرائيلية العملية البرية في رفح، رغم أن العالم بأسره حذر من الإقدام على تلك العملية وذلك في ذكرى دحر النازية.
وقد وصلت حرب حكومة الحرب الإسرائيلية الحالية للإبادة ذروتها في اقتحامها لرفح، حيث مجرد إصدار الأوامر للمدنيين الفلسطينيين النازحين في رفح بمغادرتها للمرة الثالثة إلى مناطق تفتقر لأسباب الحياة، حيث لا منازل ولا بنى تحتيه، هي جريمة حرب وفق ما قاله موظفو الأمم المتحدة، فعالم اليوم أصبح أكثر وضوحاً، فكل شيء يحدث أمام أنظار وأسماع كل الناس في كل العالم.
أي أن حملة الجيش الإسرائيلي في وضح النهار تتحدى العالم بأسره، كذلك لا بد من الإشارة إلى أن اقتحام رفح قد جاء بعد أقل من 24 ساعة على موافقة حركة حماس على صفقة تبادل الأسرى والمحتجزين، أو صفقة تبادل المحتجزين مع وقف الحرب، تلك الصفقة التي سعى إليها البيت الأبيض بشدة، في الوقت الذي كان الجميع على يقين بأن نتنياهو والجناح المتطرف في حكومته ضد التوصل لاتفاق حول الصفقة، خاصة في مقترحها المصري الأخير، وهو قد جاء كتتويج لمسيرة من التفاوض استمرت أشهراً عديدة منذ باريس ومروراً بالدوحة، وبعد فشل أكثر من مرة، أما دافع بايدن إلى الاتفاق فهو أن يستخدمه كورقة انتخابية، وأما دافع نتنياهو ضده، فيعود إلى أن الحرب تبقيه في سدة الحكم، بعيداً عن المساءلة القضائية الداخلية والخارجية.
وكما كان حال كل المقترحات السابقة التي كان يتم إعدادها بوجود ومشاركة الوفد الإسرائيلي، ثم كان منها من قامت بإعداده قطر أو مصر ومن ثم تم تقديمه للجانب الإسرائيلي، ثم جرى عرضه على حماس بعد إسرائيل، كان حال المقترح الأخير، نقصد المقترح المصري، الذي كان الوفد الأمني المصري قد زار إسرائيل قبل أيام خصيصاً لعرضه على نتنياهو، وحين تم تقديم المقترح لحماس بعد موافقة إسرائيل عليه، أقامت أميركا الدنيا ولم تقعدها ضاغطة على حماس بالقول إن وقف إطلاق النار بات بين يدي حماس، وكان نتنياهو يراهن على رفض حماس للمقترح، نظراً إلى أنه لا يلبي مطالبها الأساسية، لكنه فوجئ بموافقة الحركة، ورغم أنه قال قبل إعلان حماس موافقتها إنه سيدخل رفح باتفاق أو دونه، محاولاً دفع الحركة للرفض، إلا أن أميركا لم ترد على نتنياهو الذي عاد ورفض المقترح مدعياً أن ما وافقت عليه حماس مختلف عما قدم إليه، بل أكثر من ذلك لم تعتبر واشنطن اقتحام نتنياهو لرفح خطاً أحمر، وبدت كما لو أنها موافقة على ذلك الاجتياح، حيث قال جون كيربي المتحدث باسم البيت الأبيض إن إسرائيل أبلغت أميركا بأن العملية محدودة !
أصحاب المقترح، أي الوسطاء أنفسهم، قالوا بوجود تعديلات صياغية طفيفة، وأن وليام بيرنز رئيس المخابرات المركزية الأميركية وافق على المقترح المقدم لحماس، وهكذا فإن كلا الموقفين، اجتياح رفح، والعودة عن قبول المقترح المصري، يعتبران تحدياً سافراً من قبل نتنياهو لبايدن، الذي لو كان رئيساً قوياً لرد بصفعة مدوية على وجه نتنياهو، لكن تلك الصفعة بات من شبه المؤكد أنها لن تأتي من شريك في جريمة الحرب، بل من كل من يقاوم الحرب ويقف في وجهها، بمن في ذلك طلاب الجامعات الثائرون في كل مدن العالم، وستكون تلك الصفعة مزدوجة أولاً، فهي لن تقتصر على نتنياهو بل ستوجه لبايدن أيضاً، وكلاهما سيسقط بسبب تلك الحرب، والثانية ستصل لكلا الدولتين، إسرائيل وأميركا، بحيث تنكفئان كلاهما، إسرائيل داخل حدود التقسيم كدولة مسالمة، دون وهم السيطرة على الشرق الأوسط، وأميركا داخل حدودها ما بين الأطلسي والهادي، دون وهم الدولة التي تسيطر على العالم وتدير نظامه العالمي وفق إرادتها ومشيئتها، أي دون قانون دولي أو كابح عالمي.