من أطرف مُفارقات هذه الحرب الإسرائيلية الإجرامية، ومن أغربها، ايضاً، على الإطلاق ما أعلنته وزيرة موغلة في التطرُّف، ولصيقة برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وهي ميري ريغيف وزيرة المواصلات بأنّ الاحتفالات بـ «يوم الاستقلال»، وهو الاسم الحركي للنكبة الفلسطينية قد تمّت قبل ساعات من الإعلان عنها!
واضحٌ لكلّ مراقب ومتابع، ومن المفترض أن يكون واضحاً لكلّ إسرائيلي أنّ الاحتفالات السرّية هذه فضيحة أمنية وسياسية من العيار الثقيل.
نعم، جرت الاحتفالات خلسة، وتمّ تسجيل المراسم لكي يُصار إلى الإعلان عنها لاحقاً وبفارق عدّة ساعات، ولم يجد قادة الاحتلال من «حرج» خاص في هذا الإعلان، وتصرّفوا وكأنه من طبيعة الأشياء.
لا أذكر ولا أعرف أنّ دولة الاحتلال لجأت إلى الاحتفالات السرّية في أيّ ظروف حربٍ سابقة، وهي سابقة لم تحدث منذ إنشاء الدولة العبرية، ولم تكن في أيّ يومٍ من الأيّام مردوعة كما هي اليوم، ولم تكن، أيضاً، مخاوفها قد وصلت إلى هذه الدرجة المأساوية أبداً.
ولا يعرف، ولا يجد أحد، لا في إسرائيل، ولا خارجها تفسيراً كيف أنّ دولةً تعلن أنها ذاهبة إلى النصر المؤزّر والحاسم، وأنّها باتت على خطوةٍ واحدة من هذا النصر، وتحتفل بهذا الشكل المهين، والذي ينطوي على فقد الثقة بالجيش، وبقوّات الأمن، وفقد الثقة بقدرة المجتمع الإسرائيلي على تحمّل احتمال، مجرّد احتمال انفضاض الاحتفالات على الهواء مباشرةً، وبثّ صور الهلع، والاختباء تحت المقاعد، أو الهروب الجماعي من قاعة الاحتفالات في يومٍ من أهمّ أيّام الدولة، بل هو أهمّها على الإطلاق.
لو تمّ إلغاء المراسم بسبب ظروف الحرب العدوانية وملابساتها لكان وقع الإلغاء أخفّ وطأة من الزاوية النفسية على الجمهور الإسرائيلي، ولكان المجتمع السياسي والأمني العسكري أقلّ حرجاً من الوضع الذي وجدوا أنفسهم به، ولما وصلوا إلى هذه الدرجة من سوء التقدير، ولما فاتهم ــ وهذا هو الأهم ــ أنّ الحالة المعنوية في الحروب هي حالة مكافئة للحرب في الميدان، وأحياناً أكبر أهمية من حالة الميدان، وذلك بالنظر إلى أنّ حالة الميدان، هي حالة متحرّكة ومتغيّرة، وتستطيع قيادة الميدان التحكّم بما يتمّ الإفصاح عنه، أو التكتُّم عليه، إضافة إلى أنّ بإمكان القيادات الميدانية التلاعب بالأشكال والتبريرات التي تشرح بها سير المعارك وملابساتها.
يحدث هذا، أقصد كلّ هذا، وما زالت القيادات السياسية والأمنية تردد ــ عن ظاهر قلب كما يبدو ــ بأنّ «النصر» على بُعد خطوةٍ واحدة فقط!
وعندما كنّا نتابع المقصود بهذه الخطوة التي تفصل دولة الاحتلال عن «الانتصار» الحاسم، والمطلق والأخير، فهمنا آنذاك أنّ غزو رفح أو الدخول إلى هذه المنطقة هو المقصود بالخطوة الأخيرة، ما يعني أن جيش الاحتلال بمجرّد تمكّنه من دخولها، وبمجرّد «القضاء» على بعض الكتائب من «القسام» هناك حسب الإعلانات الإسرائيلية نفسها، فستبدأ الاحتفالات الصاخبة في كلّ أرجاء دولة الاحتلال، وستكون هذه الاحتفالات أقرب إلى الهستيرية والانفعالية، وذلك بالنظر إلى طول حرب الإبادة الجماعية والتجويع والاقتلاع، وإلى حجم الخسائر التي مُنيت بها دولة الاحتلال، وبالنظر إلى أنّ صورة الانكسار الإسرائيلي ستكون قد تلاشت ليحلّ محلّها صور الانتصار الصعب المخضّب «بالتضحيات والبطولة الفائقة».
هكذا كانت تُصوّر القيادات الإسرائيلية الأمور وتزيّنها، وهكذا كانت قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي تحلم بها وتتمنّى رؤيتها، بعد أن حوّل قطيع الإعلام الإسرائيلي هذه الأحلام، وهذه التمنّيات إلى ما يُشبه الوقائع المتحقّقة لا محالة.
وأغلب الظنّ أنّ «الشائبة» الوحيدة التي ستعكّر صفو هذه الاحتفالات كانت ستكون مقتل الأسرى الإسرائيليين أو معظمهم، وعدم تمكّن جيش الاحتلال بفرقه الثلاث العاملة الآن في قطاع غزة من إنقاذهم، وهي شائبة كبيرة وخطيرة، وغير مسبوقة، إلّا أنّها ستضيع في لجّة تلك الاحتفالات، وذلك نظراً لحجم هذا الانتصار «الهائل والكبير»!
من كان على بُعد خطوةٍ واحدة عن مثل هذا الانتصار لا يمكنه تحويل الاحتفال بـ «يوم الاستقلال» إلى احتفال تنكُّري، ولا إلى احتفال مسجّل، ولا تستقيم أموره المرتعشة مع إعلانات «الانتصار» القادم، ولا يمكن أن يصدّق أحد عاقل في هذا العالم أن الحديث يدور فعلاً عن انتصار، من أيّ نوعٍ كان، ولا يمكنه طبعاً أن يقتنع بصحّة أو دقّة الحديث عن تلك الخطوة المزعومة.
إضافةً إلى كلّ ذلك فإنّ مصيبة هذا الاحتفال المرتعش لا تكمن هنا فقط، إذ أنّه يمكن «تفهُّم» سوء التقدير الذي وقعت به القيادات السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية في ظلّ حالة الإرباك التي تعاني منه هذه القيادات، وقد نجد الكثيرين في دولة الاحتلال ممّن يلتمسون «لإخوتهم» في هذه القيادات عذراً، في ظلّ حالة الفوضى العارمة، والهلع العام التي سادت حتى الآن.
المصيبة فعلاً لا تكمن هنا فقط وإنّما ما حصل [ويا للهول و»الصدفة» الغريبة] مع هذه القيادات عندما تلمّست منذ اللحظات الأولى للتقدّم نحو تلك «الخطوة» الأخيرة، التي كانت «متبقّية» إلى حينه وصُدمت من جديد، ومرّة أخرى ثانية أو ثالثة، وربما أكثر، بأنّ القتال انتقل فجأةً إلى شمال القطاع، وإلى مدينة غزّة نفسها، وامتدّ إلى الوسط، وعاد ليغطّي كلّ القطاع، وكأنّ الأمور قد عادت إلى الأيّام الأولى لهذه الحرب العدوانية، وعادت الكمائن، والصواريخ، وفُوّهات الأنفاق، والمضادّات للدروع، و»المسافة الصفرية»، وكأنّ ثمانية أشهر من الحرب الدموية الطاحنة قد طواها زمن هذه الحرب، وعادت إلى أيّامها الأولى بكامل لياقتها، وبحُلّةٍ جديدة في مشهدٍ يُعيدنا إلى [من الأوّل عَشان الناظر].
نتنياهو بطبيعة الحال لن يتّعظ من هذه العودة، غير المحمودة للحرب في مشاهدها الأولى، ولا كلّ قيادات الجيش، بمن فيهم وزير الحرب، ورئيس الأركان، وهم شأنهم شأن نتنياهو حائرون في تفسير وتبرير عودة هذا الجيش إلى مناطق كان قد أعلنها مناطق «نظيفة»، وتمّت السيطرة، وتحوّلت إلى مناطق آمنة حسب المفاهيم العسكرية السّائدة.
ولا تجد قيادات جيش الاحتلال من مهربٍ «مُقنع» لهذا الإخفاق الكبير والخطير والجديد في آنٍ معاً سوى بالتلطّي خلف اختلافهم مع نتنياهو حول ما يسمّونه بـ»الأهداف السياسية للحرب».
أنا شخصياً لا أفهم، أو بالأحرى لا أُصدّق أنّ تحديد هذا «الهدف السياسي» أو ذاك هو جوهر الأزمة الإسرائيلية في هذه الحرب.
ولا أعرف، أيضاً، ما الذي سيتغيّر جوهرياً في هذه الحرب إذا ما قام فعلاً نتنياهو واتخذ لنفسه قبل كيانه، ثلاثة أو أربعة أهداف محدّدة وملموسة وحتى قابلة للقياس نظرياً. ما الذي سيتغيّر بالضبط؟ سيقول نتنياهو ما كان يقوله حتى الآن بصيغة أو صياغات جديدة لا تغيّر في الأمور شيئاً لأنّه لن يلتزم حتى ولو حدّد هذا الهدف أو ذاك، وهو سيحوّل أهداف هذه الحرب التي يطالب بها جيش الاحتلال إلى خطابات إعلامية جديدة ليس إلّا.
ليست الأزمة في رفض نتنياهو لتحديد أهداف الحرب، لأنّ الأزمة الحقيقية الوحيدة أنّ هذه «الأهداف» قد أصبحت من قبيل «لزوم ما لا يلزم»، ولأنّ الذي يلزم هو القبول، وتقبّل أنّ إسرائيل قد فشلت، وعجزت، وأخفقت بالقدر الذي يمنع عنها، ويحرمها من الانتصار الذي كان على بُعد خطوةٍ واحدة.
وحقيقة الأمر أنّ ذلك الاحتفال المُرتعش الذي تمّ سرّاً وخلسة وبصورةٍ أقرب إلى التنكُّريّة كان احتفالاً مُراً، ولم يكن سوى بطعم العلقم، والأهداف الوحيدة التي يبحث عنها جيش الاحتلال هي تلك التي ستُنهي الحرب العدوانية من خلال صفقةٍ باتت المَهرَب الوحيد له قبل فوات الأوان.