لا يزال الحديث عن مرحلة ما بعد الحرب على قطاع غزة، والجهة التي ستدير هذه المنطقة المكتظة جداً بالفلسطينيين، محل جدل واسع في العديد من الدول، بما فيها إسرائيل الدولة المحتلة والمرتبكة وغير القادرة على إنجاز ما تسمّى خطة اليوم التالي للحرب.
إسرائيل التي احتلت قطاع غزة بعد حرب حزيران العام 1967، خرجت منه بين آب وأيلول 2005 ضمن خطة فك الارتباط أحادية الجانب، التي أتاحت تفكيك 21 مستوطنة وإخلاء مساحة تصل لحوالى 35% من المساحة الإجمالية للقطاع.
في ذلك الوقت، اضطر رئيس الحكومة الأسبق، أرئيل شارون، إلى توليد حزب جديد هو "كاديما" من رحم حزبه اليميني المتطرف "الليكود"، لتمرير خطة فك الارتباط؛ بعد معارضة العديد من أعضاء حزبه وفي مقدمتهم آنذاك وزير المالية بنيامين نتنياهو.
يحدث هذا السيناريو حالياً في قطاع غزة، حيث تشن إسرائيل عدواناً همجياً على الفلسطينيين وتستهدفهم في كل أماكن تواجدهم، وليس هناك في بالها من خطط بشأن ما بعد الحرب سوى القضاء النهائي على حكم "حماس" في غزة.
ثمة أصوات يمينية متطرفة، كصوت وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، تدعو إلى إعادة احتلال قطاع غزة وبناء المستوطنات وعودة اليهود إلى هناك، بينما يخرج وزير الدفاع يوآف غالانت إلى العلن ويرفض تأسيس حكم عسكري إسرائيلي في غزة.
هذا الخلاف داخل الحكومة يعكس حالة التخبط التي تعيشها إسرائيل، ويشي بأنها حين بدأت عدوانها على غزة، في السابع من تشرين الأول الماضي، لم يكن في بالها أن الحرب ستطول إلى هذه الدرجة، وكانت تعتقد أن إمكانياتها العسكرية ستُحيّد "حماس".
الآن يحدث أن تنقسم الساحة السياسية في إسرائيل إلى معسكرَين، الأول يقوده نتنياهو وبن غفير وسموتريتش ومن على شاكلتهم بشأن المضي في تدمير "حماس" وإقصائها عن أي مشهد سياسي أو عسكري في قطاع غزة ومحاولة التوافق بين إيجاد بديل محلي عن "حماس"، ليس "فتح" والسلطة الفلسطينية، أو السيطرة المدنية والعسكرية على غزة إلى أجل غير مسمى.
المعسكر الآخر يضم وزير الدفاع يوآف غالانت، وعضو حكومة الحرب بيني غانتس، وزعيم المعارضة يائير لابيد، ويدعو نتنياهو إلى إيجاد بديل لحركة "حماس" يشمل السلطة الفلسطينية أو أي جهة محلية أو عربية مدعومة من المجتمع الدولي وإسرائيل تحديداً.
المشكلة أن إسرائيل غارقة حتى أذنها في وحل غزة، وعدم تحقيق أي إنجاز وضعته منذ بداية العدوان يعكس تخبطها وعدم قدرتها على صياغة المشهد السياسي لما بعد الحرب، ذلك أن الطرف المنتصر هو الذي يكتب التاريخ بشروطه.
في هذه الحرب الحالية إسرائيل بعيدة تماماً عن الانتصار، ومسألة العودة العسكرية إلى مربعات جغرافية في منطقتَي جباليا والزيتون سبق أن دمرتها وأطاحت فيها بقوة "حماس" كما ادعت، يشي أن إستراتيجيتها في هذه الحرب تتعرض للفشل الحتمي.
وعلى هذا الأساس ربما بدأ غالانت يقتنع أن فكرة احتلال قطاع غزة ستكلف إسرائيل الكثير وعلى كافة المستويات، وستعني عزلتها على الصعيد الدولي، وفي ذات الوقت ليس بيده شيء سوى استدعاء المزيد من القوات لتعزيز القبضة العسكرية على رفح.
بالنسبة لنتنياهو، فهو يجد أن إغلاق الطريق أمام المفاوضات والذهاب إلى أقصى المواقف المتطرفة، سيعنيان كسب المزيد من الوقت وهامش مناورة حتى يصل إلى الحد الأدنى من الأهداف التي يراها مناسبة ولا تعرض سمعة بلاده للخطر، والأهم عدم تعرضه للخطر وضمان خروجه الآمن من الحياة السياسية دون معوقات.
لن تتمكن إسرائيل من تقرير مصير الفلسطينيين في ظل معركة مفتوحة تعاني الأمرين فيها، وكلما توجعت أكثر في غزة كانت بعيدة عن رسم أي مسار سياسي لما بعد الحرب، وفي النتيجة ستخضع لإطار تفاوضي لا يحقق أهدافها.
هذا عدا كونها مُكبلة في رفح من جهة مخاوف توسيع حربها هناك إلى ما يشمل المناطق الآمنة في المواصي، وإن فعلت ذلك فستكون أمام خلاف عميق بين الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي التي تدعمها سياسياً وعسكرياً.
الحقيقة أنها في "حيص بيص"، وفي الآخر ستستمع إلى الولايات المتحدة حليفتها الإستراتيجية حتى تنقذها من هذه الورطة بصفقة مفاوضات لن تلبي متطلباتها السياسية والأمنية على الأغلب، وستخرج من قطاع غزة، وستنعكس هذه الورطة على الداخل السياسي بما ينتج حكومة جديدة باصطفافات سياسية مختلفة عن السابق لا مستقبل فيها لنتنياهو.