يجب تسليم أحياء شمال القدس للسلطة الفلسطينية

800px-Jerusalem_Dome_of_the_rock_BW_14
حجم الخط

بقلم: شلومو أفنري

قرار مؤتمر حزب العمل تأييد اقتراح اسحق هرتسوغ لكسر الجمود السياسي هو خطوة مهمة للتغلب على الجمود الفكري الذي يميز منذ سنين احزاب الوسط واليسار في اسرائيل. منذ اكثر من عشرين سنة بعد اتفاقات اوسلو، التي شكلت اختراقا تاريخيا في العلاقات بين اسرائيل والفلسطينيين، حان الوقت للاعتراف بان الطريق الى الحل الوسط التاريخي بين الحركتين الوطنيتين طويل ويستوجب مراحل انتقالية، في بعضها احادي الجانب.

ليس سهلا على المعسكر السياسي، الذي خط على علمه الايمان بان مجرد العودة الى طاولة المفاوضات ستضمن تحقيق الاهداف السياسية المرغوب فيها، ان يفهم بان الواقع اكثر تعقيداً من ذلك، وان حل الدولتين للشعبين – بقدر ما هو الطريق الوحيد لضمان مستقبل الصهيونية في المدى البعيد – لن يتحقق دفعة واحدة. مفهوم لماذا يعارض اليمين هذه الاقتراحات.

مفهوم اقل الاعتراض على خطط هرتسوغ من الجانب اليساري للخريطة السياسية. فأمس فقط اتهم اليسار المتطرف حزب العمل بأنه «ليكود 2»: كيف يمكن الاعتراض على خطوات تقترح صراحة تغيير الاتجاه بدلا من الوضع الراهن الحالي، ولهذا فان حكومة «الليكود» تشجبها بكل لسان؟ احد الاقتراحات الاكثر عملية التي طرحها هرتسوغ – والذي يمكن أن يطبق حتى تحت الحكومة الحالية – هو محاولة نقل الاحياء الشمالية لشرقي القدس لسيطرة السلطة الفلسطينية.

اما الاعتراض على هذه الخطوات من جانب اجزاء من اليسار فيشهد على ان اصحاب المواقف التي تبدو ليبرالية ويسارية يعانون احيانا من العمى السياسي بل الأخلاقي أيضا. مثلما هو الحال دوما، فان قليلاً من التاريخ والسياق لن يضر. إحدى الخطوات المتهورة وعديمة الحكمة التي اتخذتها اسرائيل فور حرب «الايام الستة» كانت تعريفا واسعا للمجال الذي طبق عليه القانون والقضاء الاسرائيليان في القدس؛ بتعبير بسيط: ضم شرقي القدس الاردنية.

من المعقول والمفهوم بانه لم تنطلق تقريبا في حينه في اسرائيل اصوات عارضت هذا الضم؛ ولكنه تضمن ليس فقط البلدة القديمة واحياء كالشيخ جراح، تشرف على الطريق الى جبل المشارف، بل سلسلة طويلة من القرى شمال القدس. وضم هذا الاصبع الذي يبرز من قلب القدس شمالا نبع من الرغبة لضم المطار الاردني في قلنديا («مطار عطروت») الى نطاق دولة اسرائيل، وجعله مطارا دوليا للقدس.

ولكن بضم الارض ينضم ايضا السكان الذين يسكنون فيها، ونتيجة لذلك اصبح بضع عشرات من الآلاف من الفلسطينيين مقيمين اسرائيليين يحملون بطاقات هوية اسرائيلية. كل عرب شرقي القدس ليسوا مواطنين بل مقيمون، ولكن مكانة الاقامة تمنحهم سلسلة طويلة من الحقوق، اولا وقبل كل شيء في مجال التأمين الوطني. لقد فشلت فكرة تحويل المطار الصغير في «عطروت» الى مطار دولي، سواء بسبب ظروف الارض ام لأنه لم تكن أي دولة مستعدة لتعترف بالسيطرة الاسرائيلية عليه واستقبال الرحلات الجوية الدولية المنطلقة منه. ومع ذلك، فعلى مدى سنوات عديدة اعتبر الحجم الواسع للارض التي ضمت لاسرائيل ظاهرة هامشية ولم تنل اهتماما عاما.

أما اليوم فالواقع مختلف. القرى شمال القدس، والتي لم تكن ابدا جزءا من نسيجها المديني، اصبحت احياء سكنية مكتظة، سواء بسبب التكاثر الطبيعي أو لأنه انتقل إليها العديد من الفلسطينيين من مناطق الضفة الغربية التي لم تضم. ويسكن فيها اليوم نحو 200 الف فلسطيني (نحو نصف السكان الفلسطينيين في اراضي البلدية للقدس). من ناحية القانون الاسرائيلي فان هذه ارض اسرائيلية بكل معنى الكلمة، ولكن الجدار الامني، الذي بني دون مراعاة المكانة القانونية للارض، قطع معظمها عن القدس وجعلها عمليا ارضا سائبة. من لا يعرف القدس عليه أن يعرف هذا بالشكل الاكثر وضوحا: بين القدس ورام الله توجد الآن ارض سائبة، ليست تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، ولكن السيطرة الاسرائيلية فيها وهم تام. رغم اعلانات البلدية، فانها لا توفر الخدمات لـ 200 الف من السكان هم رسميا سكان القدس. وليست شاحنات القمامة التابعة للبلدية ومراقبوها فقط لا يدخلون الى هذه المنطقة بل الشرطة والجيش ايضا.

معظم مواطني اسرائيل لا يعرفون بانه يوجد «ثقب اسود» كهذا بيننا وبين مناطق السلطة – وبالتأكيد ليسوا على وعي بان المواطن الاسرائيلي اليهودي الذي يدخل الى هذه المنطقة يعرض حياته للخطر، حتى وان كانت هذه المنطقة رسميا تحت السيادة الاسرائيلية. لا يوجد أي سبب يجعلنا لاعتبارات جنون العظمة غير الواقعية لمن رسموا حدود القدس في 1967 أن نواصل الوضع الحالي.

فهو لا يضيف امنا لاسرائيل (بل العكس) ويبقي عددا كبيرا من السكان بلا أي حماية وبلا سيطرة ناجعة. وبالتأكيد من يقلق على الحفاظ على الاغلبية اليهودية في القدس عليه أن يؤيد كل فكرة للانفصال عن هذه المنطقة وسكانها والسماح للسكان الفلسطينيين هناك بان يعيشوا تحت حكم السلطة الفلسطينية. من الصعب أن نفهم المعارضين من الجانب اليساري لفكرة الانفصال عن هذه المناطق، فالحديث يدور في معظم الحالات عن شخصيات يعارضون ضم شرقي القدس ويؤيدون الانسحاب الاسرائيلي من معظم اراضي الضفة ان لم يكن منها كلها.

فباسم أي مبدأ يعارضون خطوة تحرر نحو ربع مليون فلسطيني من  الضم الذي فرضته عليهم اسرائيل في 1967 ويسمح لهم بان يعيشوا بهذا الشكل أو ذاك تحت السيطرة الفلسطينية منذ اليوم، بدلا من أن يضطروا لانتظار الحل الشامل الذي من الواضح للجميع انه بعيد؟ السبب لهذا الموقف الغريب من بعض دوائر اليسار مفهوم، ولكنه مثير للشفقة: فالالتصاق بالحل الشامل الخيالي هنا والآن يجعلهم يؤيدون الوضع الراهن.

مثلما في حالات اخرى، ما يعتبر الحل الافضل والاكثر تطورا هو عدو ما هو ممكن. ان حقيقة ان رئيس الوزراء تحدث في هذا الاتجاه – بخلاف رأي رئيس بلدية القدس الذي لديه اعتبارات اخرى – تبرز امكانية أن يكون هذا الموضوع من المحتمل التعاون فيه بين الحكومة والمعارضة الرئيسة.

الحل بالطبع ليس بسيطا: فمن الصعب ان نرى السلطة الفلسطينية تؤيده (لماذا التسهيل على اسرائيل؟)؛ كما ستكون حاجة لضمان الحقوق التي راكمها سكان هذه المنطقة على مدى السنين في التأمين الوطني. كل هذا ليس بسيطا. ولكن حتى لو كان هذا صعبا ومعقدا، فهو ممكن. يدور الحديث عن مصلحة اسرائيلية واضحة واعطاء امكانية لمئات آلاف الفلسطينيين للتحرر من السيطرة الاسرائيلية المباشرة التي فرضت عليهم. اذا تمت هذه الخطوة، فهي ستوضح بان المصالح الاسرائيلية والفلسطينية ليست بالضرورة متعارضة الواحدة مع الاخرى وانه يمكن البحث عن الوسائل لالتقائها، حتى لو كان هذا صعبا. اما معارضة اجزاء في اليمين واجزاء في اليسار لهذه الخطوة فتثبت بان نقطة التوازن توجد بين المتحمسين الايديولوجيين في الطرفين المختلفين من الخريطة السياسية.

عن «هآرتس»