لأن حقيقة ن تعلق رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بالمنصب باتت مؤكدة، فإن ما هو متوقع منه بات واضحاً لمن يريد أن يقرأ السياسة بشكل صحيح، والحقيقة أيضاً تؤكد بأن نتنياهو يعتمد في البقاء في منصبه على اليمين المتطرف، أي على الشراكة والتوافق مع حزبَي القوة اليهودية، والصهيونية الدينية، بزعامة كل من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وبين هاذين والحليف الأميركي، تتعارض الضغوطات على نتنياهو، لكنه يعرف كيف يخرج منها، على أقل تقدير حتى الآن، أي بعد ثمانية أشهر من الحرب على قطاع غزة، وبعد عام ونصف من تشكيل أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً وعنفاً، وفق تقديرات الأوساط الإسرائيلية والأميركية، وليس وفق تقديراتنا، ولعل ما يحدث في رفح خير دليل على قدرة نتنياهو على تنفيذ ما يُرضي حليفيه المتطرفين، وذلك ضد رغبة وإرادة واشنطن، فيما هو معلن على الأقل.
أميركا والعالم كله، ظلا يحذران نتنياهو من إطلاق العملية البرية إلى رفح، في حين كان هو يصر تنفيذاً لما يريده بن غفير وسموتريتش، ولما يريده هو أيضاً من مواصلة الحرب، يريد الدخول إلى رفح، ولأنه يريد اصطياد العصفور وليس محاربة الناطور، فقد اتبع تكتيكاً عسكرياً مختلفاً في رفح، استند إلى أسلوب الاجتياح التدريجي، وذلك بدخول شرق رفح، أي حيي الجنينة والسلام، بعد إجبار سكان تلك المنطقة على النزوح، وكان أهم حدث درامي في هذه الخطوة هو احتلال معبر رفح، بما أثار حفيظة مصر، وكان ذلك بالطبع بعد إفشال نتنياهو لجهود صفقة تبادل المحتجزين والأسرى مع وقف إطلاق النار ووقف الحرب، وقد خدع بذلك الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي كان قد أراد صفقة التبادل، وما زال يريدها بقوة.
القصة كلها عند نتنياهو تحقيق أمرين، أحدهما قريب وهو تمرير الوقت في ظل الحرب، لحماية حكومته من السقوط، وحماية نفسه من المساءلة القضائية، وهو يدرك بأنه كلما مر الوقت، فتر حماس بايدن وتضاءلت رغبته في عقد صفقة التبادل مع «حماس»، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستجري بعد أقل من نصف عام من الآن، ونتنياهو يراهن على عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض، حيث حينها لن ينشغل الرئيس الجديد مدة أشهر إضافية في ترتيبات نقل السلطة وحسب، بل ستتغير سياسة أميركا كلها تجاه أهداف الحرب الإسرائيلية، والهدف الثاني البعيد لنتنياهو هو إعادة احتلال قطاع غزة، وليس فقط قطع الطريق على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي تشمل كلا من القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وكان نتنياهو بالتحديد قد مضى سنوات طويلة في رعاية الانقسام، منعاً لإقامة دولة فلسطينية توحد الضفة والقطاع، والآن يسعى لمنع إقامة أية دولة فلسطينية، حتى لو كانت على قطاع غزة فقط.
ومع طاقم التطرف القومي الحالي في الحكم، وبعد أن انتقل الحكم في إسرائيل من اليسار إلى اليمين، إلى اليمين المتطرف حالياً، فإن العودة عن خطوة ارئيل شارون الخاصة بالانسحاب من قطاع غزة من جانب واحد، والتي كانت عام 2005، باتت أمراً ممكناً في نظر بن غفير وسموتريتش ومعهما عتاة التطرف والعنصرية والإرهاب من وزراء ونواب الليكود في الكنيست، وقد شجع الحال العربي، كذلك الانقسام الفلسطيني الداخلي المتواصل منذ أقل قليلاً من عقدين من السنين، المتطرفين الإسرائيليين على الاستفراد بالقدس والضفة أولاً، ثم التفكير في إعادة احتلال قطاع غزة ثانياً، وهو هدف بات واضحاً خلال هذه الحرب، وذلك ارتباطاً بحرب الإبادة الجماعية والتهجير والتدمير الكامل لكل مظاهر الحياة في القطاع، الذي في حال تم إفراغه من سكانه، كما قال قبل أشهر سموتريتش، بحيث يمكن لإسرائيل أن تحتمل وجود مائتي ألف فلسطيني أي 10% من سكان القطاع الحاليين، فإن إعادة الاستيطان في القطاع تكون ممكنة.
وقطاع غزة بات مغرياً أكثر من ذي قبل، خاصة مع تخيله خالياً من السكان، ومع 50 كيلومتراً من الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، ومع ظهور بئر الغاز مارينا قبالة شاطئه، والذي يقدر له أن يحقق مليارات الدولارات سنوياً من إنتاج الغاز الطبيعي، هكذا فإن وقفاً للحرب من الجانب الإسرائيلي لن يعلن عنه أبداً لا في القريب ولا حتى البعيد، لن يعلن نتنياهو عن وقف الحرب ولا عن انتهاء العملية العسكرية، خاصة وأن شركاءه المناكفين في الكابينت، نقصد كلاً من بيني غانتس ومعه غادي ايزنكوت بالطبع، ويوآف غالانت، وهيرتسي هاليفي، يوافقونه على مواصلة الحرب في رفح، وفقط يطالبونه بتحديد الهدف السياسي، أي تحديد من يحكم قطاع غزة في اليوم التالي لحرب لا يريدها نتنياهو أن تتوقف ولا أن تنتهي، وحتى بايدن يتوافق معه على ملاحقة «حماس» ومحاربتها في رفح، لكنه لا يوافقه على الهدف البعيد والحقيقي للحرب وهو تهجير وقتل وتدمير الفلسطينيين، لجعل غزة قابلة للاستيطان والضم فيما بعد.
وحيث أنه كان يمكن فقط فكفكة الموقف الإسرائيلي، وتخفيف الضغط العالمي على أميركا التي تواجه كل يوم تقريباً مشاريع قرارات في مجلس الأمن، وتجد نفسها معزولة في الجمعية العامة، بل تواجه تظاهرات غير مسبوقة داخلياً منذ حرب فيتنام، وذلك من خلال تركيز الجهد العسكري على قوات «حماس» وتجنب قتل المدنيين، حيث لم يحقق نتنياهو ذلك للأميركيين، وفقط تجنبت أميركا، وإن كان إلى حين، توسيعَ نطاق الحرب وتحولها من حرب بين إسرائيل و»حماس» في قطاع غزة مع جبهات ساخنة في الضفة ولبنان واليمن، لكن يمكن القول إن مسار الحرب الرئيسي سار أولاً مدة أطول مما كان يرغب به الأميركيون، وثانياً وفق إدارة نتنياهو لها بإيقاع التدمير الهائل وإيقاع الضحايا بكثرة في صفوف المدنيين، وصولاً لارتكاب جرائم الحرب الصريحة وارتكاب جريمة حرب الإبادة الجماعية، بشكل محتمل.
وبعد إعلانات أميركية متلاحقة عن وجود خلافات، وضغوط مارسها بايدن على نتنياهو، وصولاً إلى تعليق صفقة أسلحة وذخائر قيل إن الحديث يدور عن قنابل يزن بعضها أطناناً من المواد المتفجرة، صمتت الإدارة الأميركية حتى بعد أن تنصل نتنياهو من صفقة التبادل، مباشرة بعد القبول المفاجئ لـ «حماس»، حيث كان نتنياهو يراهن على رفضها، لم يفعل بايدن شيئاً، بل خرج نتنياهو متحدياً إياه بالقول بأن إسرائيل مستعدة للقتال وحدها، وفور ذلك بدأت إسرائيل عمليتها العسكرية في رفح، والآن ظهرت الخلافات بين غالانت وغانتس من جهة ونتنياهو الذي انضم إليه بن غفير وسموتريتش ضد عضوي كابينت الحرب، حيث يظهر هناك الخلاف علنياً بين مستويَي السياسة والعسكر في كابينت الحرب.
لكن بتقديرنا لن تغير تلك الخلافات من الأمر شيئاً، فنتنياهو سيواصل طريقه متشبثاً بالحكم، ومتكئاً على بن غفير وسموتريتش، لكن مع كل ذلك هناك أمر لا بد من الإشارة إليه، وهو أنه ليس صحيحاً أن نتنياهو يبحث عن صورة للنصر، وربما كان هذا قبل أشهر مضت، لكن الآن وقد علِق الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، فإن مواصلة اجتياح رفح، لن تتوقف، خاصة مع نزوح أكثر من نصف من أقاموا في المدينة خلال الحرب، ونتنياهو يدرك أكثر من غيره، بأن هدفه ليس عسكرياً، أي أنه لا يصدق نفسه حين يقول بأنه قد فكك 19 لواءً لـ «حماس» وبقيت 4 ألوية في رفح، أو أنه سيجد السنوار والضيف حيَّين أو ميتَين في رفح، فالجيش الإسرائيلي سبق له أن قام بتنفيذ عمليته العسكرية في الشمال، أي بيت حانون وجباليا ومدينة غزة، وطبيعي أنه وفق ادعائه قد قام بتفكيك لواءاتها العسكرية، بل إنه من الطبيعي أن يكون حتى قد دمر الأنفاق العسكرية فيها، لكن ضراوة ما يقع من مواجهات في حي الزيتون للمرة الثالثة، وضراوة المواجهة الميدانية التي وقعت خلال الأيام الأخيرة في جباليا، حيث فقدت إسرائيل باعترافها عشرات الجنود والضباط، ما يؤكد بأن احتلال غزة، قد أطلق حرب العصابات ضد جيشها.
وحرب العصابات ليست بحاجة حتى لقادة سياسيين من أمثال يحيى السنوار، والدليل تلك المجموعات التي تقاوم في الضفة الغربية منذ أكثر من عامين، وهي أقل عدداً وعدة وتدريباً من مقاومي قطاع غزة، وهكذا فإن قطاع غزة قد يصبح بعد سنوات مكاناً للأشباح، يسكن فيه نصف سكانه الحاليين، لكن أشباحه سيصطادون الجنود الإسرائيليين، تماماً كما كان «الفيتكونغ» يفعلون مع الأميركيين في فيتنام، وكما كان يفعل المجاهدون الجزائريون مع المستعمر الفرنسي، وبذلك فإن نتنياهو الذي سيخرج يوماً ما من دائرة الحكم، سيترك وراءه جيشاً إسرائيلياً عالقاً في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية، بعد أن اسقط أوسلو، وقطع الطريق حتى على التطبيع مع السعودية