العناوين الطاغية في مجرى الأحداث الإقليمية ظلت لسنين، هي تلك التي تتعلق بأوضاع الصراع ومجرياته في أكثر من بلد عربي، الى جانب امتداداته وتفاعلاته مع دول أُخرى في الإقليم ومع دول عالمية كبرى ووازنة.
في الأيام الأخيرة دخلت عناوين جديدة عن احتمالات الحرب.
بعض تلك العناوين زاعقة منذرة وكأن الحرب قادمة غداً لا محالة، والبعض الثاني أكثر توازناً ويضع وقوع الحرب في خانة الاحتمالات الراجحة.
لكن ظل هناك طرف ثالث يرى في كل الضجيج القائم حول الحرب الإقليمية طحناً بدون دقيق عن قناعة يعرضها ان الوضع العالمي وأوضاعه وأولوياته وتوازناته ليس في وارد حرب يمكن للكثير ان يعرفوا كيف تبدأ ولكن لا احد يعرف كيف تسير وتتطور ولا كيف تنتهي. وهو لا يرى في الضجيج العالي الحاصل أكثر من ضغوط ومناورات وعض أصابع بين أطراف كثيرة لها مصالح متعارضة تسعى لتحسين مواقعها السياسية والتفاوضية، ولا بأس في سبيل ذلك من بعض التهديدات النارية وبعض التحركات والمناورات العسكرية.
في مثل هذا الجو الذي يلف المنطقة بأسرها، من الطبيعي ان تعلو راية الوطنية على اي راية واعتبار، وان تتراجع كل العناوين لصالح عناوين وحدة الوطن وسيادته وامنه ووحدة مكونات نسيجه الاجتماعي المتعايش، وغيرها من العناوين الوطنية الجامعة.
بالتأكيد، هناك من يُعلي راية الوطنية والعناوين الجامعة، وربما يكونون الأغلبية، لكن ذلك لا يلغي حقيقة بروز حالات واتجاهات سياسية ومجتمعية تعلي رايات أُخرى فوق الراية الوطنية وقبلها، وربما تصل الأمور الى اعتبار تلك العناوين الأُخرى مدخلها الى الوطنية.
وكأن الرايات الأُخرى ظلت موجودة وكامنة طوال عقود بانتظار فرصة ظهورها المناسبة.
ظهرت رايات قوميات كانت هاجعة ومندمجة في النسيج الوطني العام فكانت الكردية والتركمانية والأمازيغية والبربرية والأزيدية وغيرها. والى جانب رايات الطوائف الإسلامية والمسيحية بشمولها، ظهرت رايات المذهبية بتفاصيلها فاصبحنا أمام السنية والشيعية والعلوية والدرزية.
التناقض الذي اقحم بين السنة والشيعة، وبغض النظر عن المسؤول الأول عن البدء به، هو الأكثر انتشاراً والأكثر خطراً. إنه ينتشر بسرعه وتعمق وعدائية مستعيداً أيام الإمام علي ومعاوية وصفين، وأيام الحسين ويزيد وزينب وكل الصراع والدم الذي أريق فيها.
والخشية ان نجد انفسنا في يوم، أمام مذهبية حنفية وأُخرى حنبلية ومالكية وشافعية.
لكن الأكثر مفاجأة واستغراباً في الرايات الأُخرى التي ظهرت، هو انبثاق راية العشائرية والقبلية في بعض البلدان (اكثرها وضوحا في العراق) وراية المناطقية في بلدان أُخرى (أكثرها وضوحاً في ليبيا). وقد تصدرت المشهد السياسي لدرجة حتى اصبح الاتفاق على تشكيل أجهزة الحكم ومؤسساته في هذه البلاد، على ضعفها ومشاكلها، يشترط الاتفاق على ما يشبه ائتلافات المحاصصة بين تلك القبائل والعشائر، أو المناطق.
والأغرب أن الطائفية تداخلت مع العشائرية ليكون لدينا عشائر سنية وأُخرى شيعية وثالثة تجمع في صفوفها السنة مع الشيعة. ووصل الأمر الى تحسس عال وصل حد الرفض في بعض الحالات ان تقوم عشائر من مذهب معين بتحرير مناطق من الوطن من سيطرة تنظيمات إرهابية، حتى لا يحسب ذلك لصالحها في حسابات التوازن المذهبي، وصل الى الإصرار ان يكون لعشائر كل مذهب قواتها الخاصة، في تجاوز من الجانبين للجيش الوطني ودوره ومسؤولياته الأساسية.
ظهور الرايات الأُخرى، وبالذات العشائرية والمناطقية، يشير الى ان الدولة القطرية التي تشكلت قبل مئة عام بالضبط كنتيجة لاتفاقات سايكس بيكو، فشلت في صهر مكونات مجتمعاتها في بوتقة الوطنية الجامعة، وعلى أساس المواطنة المتساوية في الحقوق وفي الفرص وأمام القانون الواحد. وأبقت فوارق التمييز قائمة على أسس مختلفة منها الديني والمذهبي والمناطقي والعشائري، واهمها السياسي.
كما يشير ظهور الرايات الأُخرى الى ان الدولة القطرية فشلت في توفير الشعور الطبيعي المطلوب بالأمان والاستقرار في حضن الدولة ومؤسساتها، ما أبقى الباب مفتوحا لأحضان أُخرى توفرهما. وهو ما كرّس وجود انتماءات وولاءات لهذه الأحضان موازية لحضن الدولة، وقاد الى رفع الرايات الأُخرى الى جانب راية الوطن، وربما متنافسة معها او متقدمة عليها.
ان بذور فشل الدولة القطرية المشار اليه واستمرار الانتماءات والولاءات الأُخرى كانت مزروعة في صلب تشكيلها باتفاقات سايكس بيكو ثم سان ريمو كالغام موقوتة عملت فترة الاستعمار على تغذيتها وزيادة بارودها، ولم تنجح الدولة القطرية بعد زوال الاستعمار في تفكيكها.
والغريب ان ظاهرة الرايات الأُخرى، اذا امكن تسميتها بالظاهرة ولو ببعض التجاوز، تحصل بأغلبها في البلدان العربية التي ظلت تحكمها طوال عمرها تقريبا أنظمة ترفع راية المدنية من جهة، والعلمانية من جهة ثانية، او الثورية او التقدمية من جهة ثالثة. وهو ما يضع علامة استفهام حول جدية هذه التسميات وحول تطابق محتواها النظري السياسي مع برامجها وسياساتها في إدارة السلطة والمجتمع.
إن وجود واستمرار الظاهرة المذكورة، يقدم واحداً من التفسيرات، لسؤال استدعاء أصحاب الرايات الأُخرى غير راية الوطن، التدخل الخارجي، بكل ما يعنيه ذلك من مس بسيادة الوطن ومن تعميق الانقسامات في الدولة وفي المجتمع. وما يعنيه من تشويه وإضعاف لفرص قيام ونجاح حراك شعبي يسعى لتطوير الدولة والمجتمع على أسس العدالة وسيادة القانون والمساواة والتقدم الاجتماعي والديمقراطية.