أخيراً بعد مماطلة وتلكُّؤ، كانت خلفه تهديدات وضغوط شديدة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، واللوبي الصهيوني، لم يجد المدّعي العام للجنائية الدولية، كريم خان مفراً من أن يطلب إصدار مذكّرات توقيف بحقّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير جيشه يوآف غالانت، بالإضافة إلى ثلاثة من قيادات حركة حماس وجناحها العسكري "كتائب عز الدين القسّام".
هذا الطلب كان استحقاقاً واجباً منذ أن كانت المدعية العامة في "الجنائية الدولية" فاتو بنسودا في الموقع الذي يشغله كريم خان، الذي تولّى المنصب منذ عام 2021.
ملفّ "الجنائية الدولية"، كان طافحاً بالشكاوى والملفّات التي تقدمت بها فلسطين، ومنظمات حقوقية فلسطينية وغير فلسطينية حتى قبل 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر العام المنصرم.
غير أنّ المدعي العام البريطاني، المسلم من أصل باكستاني، لم يبادر إلى فتح تحقيقات، وإظهار الحدّ الأدنى من الاهتمام بالملفات الفلسطينية التي تتّهم إسرائيل بجرائم حرب، رغم أنّه بعد شهر واحد فقط من الحرب على أوكرانيا، تمّ إصدار مذكرة توقيف بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
كان ذلك جزءاً من الحرب التي دعمتها الولايات المتحدة، ودول أوروبا الغربية ضد روسيا، وعلى الرغم من وضوح سياسة الكيل بمكيالين، التي ظهرت بوضوح خلال الصراع في أوكرانيا.
لقد طفح الكيل أخيراً، حتى لم يعد بإمكان خان وقضاة المحكمة الادعاء بالتزامهم القسَم الذي أعلنوا التزامهم به حين استلموا وظائفهم، وبعد أن انتشرت في أنحاء الأرض كلها محاكمات قضائية، كان أبرزها، ما تقوم به محكمة العدل الدولية التي تتهم دولة الاحتلال بارتكاب حرب إبادة جماعية وتجويع بحقّ الفلسطينيين.
يعرف خان أنّه يُجازف بوظيفته، حين يتحدّى الرفض والعقوبات والتهديدات الأميركية والإسرائيلية، لكن الصمت بالنسبة له يشكّل حكماً بالإعدام على وظيفته وتاريخه المهني ونزاهته، وضميره الأخلاقي.
خان لم يكتفِ بطلب مذكرات التوقيف ذات الأبعاد الإستراتيجية وإنّما، وربّما في محاولة لحماية نفسه، أصدر بياناً علنياً، رفض من خلاله التهديدات التي تعرّض والمحكمة لها، وكان معلوماً مصدر تلك التهديدات التي لم تكن هي الأخرى سرّية.
ولكنّه في محاولة لإظهار قدرٍ من التوازن، أدرج أسماء ثلاثة من قادة "حماس"، هم: رئيسها إسماعيل هنية، ورئيس مكتبها السياسي في غزّة يحيى السنوار، وقائد أركان "القسّام" محمد الضيف.
هكذا وضع خان الجلّاد والضحيّة في المستوى ذاته، بل إنّ الكفّة رجحت لجهة "حماس" ظلماً، مع أنّ نوع وحجم التهم الموجهة للطرفين الإسرائيلي والفلسطيني غير متناسب على الإطلاق لا نوعاً ولا كمّاً.
منطق القانون الدولي يشير إلى أنّ إسرائيل هي كدولة احتلال، مَن يرتكب الانتهاكات والمجازر بحق الشعب الفلسطيني المحتلّة أرضه حسب قرارات الأمم المتحدة، وأنّ ميثاق الأمم المتحدة يعطي الحق للشعب المحتلّة أرضه بمقاومة المحتلّ بكافّة الأشكال والوسائل.
عند هذه النقطة الأساسية، أيضاً، يتمّ تحديد من له الحق في الدفاع عن النفس، هل هو المحتلّ والمعتدي، أم الشعب الذي يخضع للاحتلال.
من في هذا العالم يمكنه أن يتجاهل الاستيطان غير الشرعي وغير القانوني في الأراضي المحتلّة عام 1967، بالإضافة إلى ما يجري في ساحات المسجد الأقصى، وسياسة هدم المنازل، والاعتقالات، وعمليات التعذيب وسجلّ الانتهاكات الذي لا يتوقّف عند حدود؟
قبل "طوفان الأقصى"، كانت دولة الاحتلال بجيشها ومستوطنيها، تشنّ حرباً لا هوادة فيها بحقّ الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس، وقبل "طوفان الأقصى"، أيضاً، لم ينس العالم كلّ العالم، الحصار الاحتلالي لقطاع غزّة، ولا الحروب المتكرّرة التي شنّتها الدولة العبرية، والتي أودت بحياة آلاف الغزّيين شهداء وجرحى، بالإضافة إلى تدمير المنازل والبنية التحتية.
حتى هذا اليوم لم تتحرّك "الجنائية الدولية" رغم أنّ دولة الاحتلال رفضت الانصياع لكلّ القرارات الدولية، وآخرها قيام ممثّلها الدائم جلعاد أردان بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة أمام ممثلي المجتمع الدولي.
كانت الإدارات الأميركية، ولا تزال الدرع الحامي لإسرائيل إزاء كلّ ما ترتكبه من انتهاكات ومظالم، لكن ما يجري في القطاع والضفة والقدس، لم يترك مجالاً لأحد، لكي يواصل الصمت بينما تطيح إسرائيل بكلّ القوانين والقيم الإنسانية وترتكب مجازر إبادة جماعية بحق الفلسطينيين.
وبصراحة، فإنّ مذكرة كريم خان، تنطوي على قدرٍ من الرّحمة، لدولة الاحتلال، فالإجرام لا يتوقّف عند نتنياهو وغالانت، وإنّما يشمل "مجلس الحرب" كلّه، والحكومة الفاشية كلّها، وكثيراً من المسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين.
ماذا عن إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ــ على سبيل المثال؟ وماذا عن الذين حرّضوا على القتل من حاخامات، ونشطاء؟ وماذا عن وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو الذي قال: "إنّ على إسرائيل أن تستخدم قدراتها النووية في غزّة لإبادتها؟".
إذا كانت التهم التي أوردها خان في طلبه، تتوقّف عند هذا الحدّ، فإنّ ثمة عديد القضايا التي تحتاج إلى تحقيقات مستقلّة ومهنيّة.
ماذا عن اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة، وعن قتل أكثر من 140 صحافياً واعتقال آخرين؟
ماذا عن ملفّ الاستيطان الذي لا يتوقّف عن الزحف على الأرض الفلسطينية؟
ماذا عن ملفّ الأسرى، والظروف القاسية، وعمليات التعذيب التي يتعرّضون لها؟
ماذا عن عمليات الإعدام الميداني، والمجازر التي تُرتكب في مدن ومخيمات وقرى الضفة؟
وأخيراً، ماذا عن التهديد الاحتلالي الرسمي، لخان والقضاة، الذين تتعرّض حياتهم للخطر، ذلك أنّ نتنياهو كان قد قال: "لستُ خائفاً من السفر إلى أرجاء العالم، وأنّ على المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، أن يكون قلقاً على وضعه وعلى وضع المحكمة؟".. وللكلام بقية.