رغم أن قرار مدعي عام الجنائية الدولية في لاهاي كان متوقعاً، حتى أن بنيامين نتنياهو رئيس حكومة حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية، كان يعيش حالة من القلق البالغ منذ أسابيع، واصل خلالها اتصالاته بقادة العالم الغربي، لدفعهم للتأثير على المحكمة الجنائية الدولية ومنعها من إصدار مذكرات التوقيف بحقه وحق مجرمي الحرب من أركان حكومته، ورغم أن إعلان المدعي العام لا يعتبر نهائياً وهو في انتظار قرار قضاة المحكمة بإصدار مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، إلا أن دنيا نتنياهو وإسرائيل قامت ولم تقعد، ذلك أنه مجرد البدء في تقديم الدعاوى القضائية ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين، يعني بأن القضاء الدولي قد اجتاز على طريق العدالة خطاً كان النظام العالمي الأميركي يعتبره واحداً من المحرمات.
ولأن أميركا خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة وتنصيبها قائداً منفرداً للنظام العالمي، تقوم بحماية إسرائيل والحفاظ على موقعها كدولة فوق القانون، واصلت إسرائيل ليس احتلالها لأرض دولة فلسطين وأراض عربية أخرى، ذلك الاحتلال الذي يعتبره القانون الدولي غير شرعي، بل واصلت ممارسة كل ما هو غير شرعي، وذلك في أوقات الحرب وفي أوقات السلم أيضاً، فمثلاً واصلت بناء المستوطنات ومصادرة الأرض الفلسطينية بالرغم من اتفاق أوسلو، ثم هي تمهيداً لحرب الإبادة صعدت من إجراءاتها منذ آذار العام 2022 بعملية كاسر الأمواج، بما تتضمنه من قتل ميداني بحق المواطنين الذين يفترض فيها أن توفر لهم الحماية والحق في الحياة كقوة احتلال.
وقد تعاملت أميركا منذ الحرب العالمية الثانية مع إسرائيل ليس كوريث فقط لبريطانيا التي أنشأت إسرائيل بوعد بلفور، ثم برعاية الهجرة اليهودية خلال 30 سنة انتداب، بل كما لو كانت إسرائيل ولاية أميركية، لم تكن تكتفي بتزويدها بالسلاح الهجومي ولا بالمساعدات المالية الهائلة سنوياً، ولا باستخدام نفوذها في مجلس الأمن لتعطيل كل القرارات التي كان يمكنها أن توقف إسرائيل عند حدود كونها دولة تدافع عن نفسها فقط، داخل حدودها، وليس كدولة عدوانية، تشن الحروب على دول الجوار، وأولهم دولة فلسطين، التي لها معها حدود التقسيم، بما ينتهي باحتلال أرضهم، ثم تواصل عدوانيتها عبر تفوقها العسكري على كل دول الشرق الأوسط فرادى ومجتمعين.
وهكذا فإن إسرائيل لم تكتف بالعيش داخل حدودها التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1947 بقرار التقسيم، ولا بحدود إعلانها التي وصلت إليها بالحرب عام 48، وهي تحتفظ وتدعي ليل نهار ملكية كل أرض دولة فلسطين، سواء تلك المقرة في قرار التقسيم، أو تلك التي يشملها قرار مجلس الأمن 242، الذي اعتبر كل الأرض التي احتلتها إسرائيل بما فيها بالطبع القدس الشرقية والضفة الفلسطينية وقطاع غزة، أراضيَ محتلة، لا يجوز ضمها ولا تغيير معالمها، ولا الاستيطان فيها، ولا حتى منع سكانها من استثمارها، وهي بكل شروط مواصفات القانون الدولي، نقصد إسرائيل تعتبر دولة عدوانية، تخرج عن القوانين والمواثيق الدولية في حالتي الحرب والسلم.
باختصار وبلغة سياسية، تعتبر إسرائيل دولة مارقة على المجتمع الدولي، ولو كانت دولة عادية، أي مثل نحو 190 دولة من دول آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية على وجه الخصوص، لتم ردعها مبكراً، أما وحالتها هي كذلك، وهي على هذه الحالة منذ قيامها، أي منذ 76 سنة، فإن بقاءها على هذه الشاكلة، لن ينتهي إلا بأحد احتمالين لا ثالث لهما، أولهما أن تتجر إلى درجة الوصول إلى حالة الدولة الفاشية، وهي اقتربت جداً من هذه الحالة منذ ثمانية أشهر مضت، فإن عجز المجتمع الدولي عن وضع حد لها، فقد تزج بالبشرية في أتون حرب واسعة، وثاني الاحتمالات، أن ينجح المجتمع الدولي، وبشكل تدريجي، في فك قبضة أميركا على العالم وعلى القانون الدولي بشكل خاص، وبذلك يجبر إسرائيل على الانكفاء والتحول إلى دولة طبيعية مسالمة، تعيش بحسن جوار مع الآخرين، وفي مقدمتهم الفلسطينيون.
هكذا يكون قرار المدعي العام ومن قبله قرار المحكمة بتحذير إسرائيل من ارتكاب حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، مهماً للغاية، وهو من قبيل «العيار اللي ما بيصيب، بدوِش»، وحتى قبل أن يصدر المدعي العام قراره، سارع العضو الجمهوري في مجلس الشيوخ ليندساي غراهام بالمطالبة بفرض عقوبات على المحكمة، وتهديد القضاة بعقوبات شخصية، وإذا كان رد فعل الجمهوريين الأميركيين يظهر كل ما يخفونه من عنصرية ونزعات فاشية تجاه العالم، فإن المستهجن هو رد فعل الرئيس جو بايدن نفسه، الذي لم يحترم القضاء الدولي، كما فعل الرئيس الفرنسي على اقل تقدير، وأعلن بكل جرأة أنه خبير في القضاء، حين قال بأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ليست إبادة جماعية، في حين أنه يتوجب عليه وعلى كل سياسيي العالم خاصة الديمقراطي منه أن يحترموا القضاء، وأن يوفروا له كل الظروف التي تتيح للقضاة أن يتخذوا قراراتهم بمهنية وحيادية، احتراماً للقضاء العالمي، الذي بات الملاذ الأخير للمظلومين في العالم خاصة الفلسطينيين، الذين يقاومون احتلالاً كما لو كانوا «سيزيف» بسبب أن الاحتلال مرتبط بإسرائيل، الدولة المدللة التي وضعتها أميركا فوق القانون العالمي.
وفي طيات قرار الادعاء كانت الحقيقة التي لا غبار عليها، حتى بإقرار الأميركيين ومنهم بايدن نفسه، فقد جاء في طلب كريم خان إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تشمل التجويع والقتل العمد والإبادة و/أو القتل، فهل هناك في العالم من لا يقر بأن نتنياهو وغالانت أمرا بسياسة التجويع، وأميركا تشهد على هذا، بدليل أنها تشارك في إرسال المساعدات الإغاثية التي لا تصل لمستوى سد الرمق، كما أن بايدن وطوال 8 أشهر وهو يطالب نتنياهو بتجنب قتل المدنيين، وليس فقط الإعلام العالمي، بل كل المنظمات الإنسانية والحقوقية الأممية وحتى أمين عام الأمم المتحدة يشهدون على مئات جرائم الحرب، بقصف المستشفيات وأماكن اللجوء، بل إن 120 ألف ضحية بين شهيد وجريح ومليوني مجبَر على النزوح أكثر من مرة، شواهد على جرائم حرب لم ترتكب منذ الحرب العالمية الثانية، وإسرائيل أوقعت 5% من سكان قطاع غزة بين قتيل وجريح، خلال 8 أشهر أي ما يعادل بالنسبة للسكان 17 مليون أميركي أو نصف مليون إسرائيلي، وهذه المقارنة تظهر العنصرية التي لا يمكنهم إنكارها، لو أن الضحايا كانت في صفوفهم.
بالطبع فإن منطق الفاشيين مقلوب تماماً، فبيني غانتس يعتبر حرب إسرائيل على غزة أكثر حرب أخلاقية عبر التاريخ، وأميركا تعتبرها حرباً للدفاع عن النفس، وهي أقل ما يقال فيها بأنها حرب تشنها إسرائيل خارج حدودها، ولو كانت دفاعاً عن النفس لما كانت كذلك، وكل قادة الحرب الإسرائيليين ومعهم الإدارة الأميركية ما زالوا يصرون على مواصلة الحرب، رغم قرار لمجلس الأمن مررته واشنطن بالامتناع عن التصويت من بين أكثر من خمسة أو ستة مشاريع قرارات، يطالب بوقف الحرب، ورغم مطالبة المحكمة الدولية إسرائيل بالتوقف عن ارتكاب جرائم الحرب، والالتزام بقوانين الحرب بتجنب قتل المدنيين أو تهجيرهم أو حرمانهم من الماء والدواء والغذاء، وبالرغم من قرار الجمعية العامة بأغلبية ساحقة، وبالرغم من الاحتجاج العالمي، الذي لم تشهد له البشرية مثيلاً.
بالعودة إلى طلب كريم خان من المحكمة إصدار مذكرات توقيف، وبالرغم من تضمين الطلب أسماء ثلاثة من قادة «حماس» إلى جانب نتنياهو وغالانت، وبالرغم من أن رد القضاة لم يصدر بعد، والأهم بالرغم من ان المحكمة ليست لها سلطة تنفيذية، أو سلطة البند السابع لمجلس الأمن مثلاً، إلا أن إصدار مذكرات التوقيف يعني احتمال أن يتم القبض على نتنياهو وغالانت في حال قاما بزيارة واحدة من 124 دولة، ويمكن أن يحدث ذلك حتى بعد خروجهما من دائرة الحكم، مع كل هذا يبقى طلب المدعي العام صادماً للإسرائيليين ومثيراً للأمل لدى الفلسطينيين، فهو يقول، بأن العالم لم يعد قطيعاً في الحظيرة الأميركية، وأن للعربدة الإسرائيلية نهاية، وأن إسرائيل باتت مكشوفة للعالم بأسره، منبوذة ومكروهة تماماً، وأن أمامها أن تكمل عمليتها الانتحارية بقيادة ايتمار بن غفير وميلشياته الاستيطانية، أو أن تضع حداً لعدوانيتها وفاشيتها المتصاعدة، فتعود إلى المسار السلمي، مسار حل الدولتين، فتعيش بين جيرانها بأمن وسلام.