مع استمرار الإبادة الجماعية في "قطاع غزة" وتزايد عمليات القتل والاغتيال في "الضفة الغربية" وتدهور الأوضاع على كافة الصعد، ما زال العدوان الاسرائيلي يزيد من اتساع الانقسام الحاد في الداخل الإسرائيلي ولدى الرأي العام الدولي. وفي هذا السياق الأخير، كانت العديد من الدول داعمة للاحتلال، في أعقاب هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. لكن أعمال الإبادة المستمرة التي مارستها إسرائيل، وعدم انصياعها للقرارات الدولية، أثار ويثير انتقادات واسعة النطاق، فيما عدلت بعض الدول مواقفها من الحرب، ومن بينها دول أوروبية لطالما كانت داعمة لاسرائيل. حتى الصورة في الإعلام الغربي لم تعد مؤيدة مئة بالمئة لإسرائيل كما كانت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
على المستويات الأعلى، بدأ الانتقادات الأمين العام للأمم المتحدة (أنطونيو غوتيريش) وانتهت بصدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) ووزير جيشه فيما يتعلق بأفعالهما خلال حرب الإبادة. ومنذ ذلك الحين، صعّدت بعض الدول وبخاصة الغربية انتقاداتها للاحتلال الاسرائيلي، واستدعت دول أخرى سفراءها أو قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الاحتلال الاسرائيلي، فيما أعلنت ثلاث دول أوروبية موقفها المعلن من إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهي إسبانيا والنرويج وإيرلندا، فيما كان الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) الذي قال في البداية إن فرنسا "ملتزمة بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، قد باشر بتغيير موقفه: "في غزة، يجب التمييز بين حماس والسكان المدنيين. هناك حاجة إلى هدنة إنسانية لحماية الفئات الأكثر ضعفا، والسماح باتخاذ إجراءات أفضل ضد الإرهابيين".
لكل القرارات الأممية التي صدرت منذ "طوفان الأقصى"، تقريبا صوتت كل دول آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا لصالحها، وكذلك فعلت روسيا والصين، بل إن الإتحاد الإفريقي، الذي يضم 55 دولة عضوا، أصدر بيانا دعما لفلسطين، مؤكدا أن "إنكار الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، وخاصة حقه في دولة مستقلة ذات سيادة، هو السبب الرئيسي للتوتر الإسرائيلي الفلسطيني الدائم". كذلك عمت، في ظاهرة غير مسبوقة، مواقف التأييد للفلسطينيين وقضيتهم ، وذلك "بفضل" المقارفات الإسرائيلية وتفاعلها الانفضاحي مع وسائط التواصل الجماهيري، التظاهرات المؤيدة لفلسطين والمنددة بالإبادة الجماعية على امتداد جامعات وشوارع عديدة في العالم أجمع.
الآن، ما العمل؟ دعونا نتفق أن هذه الإدانات لم تُدن فقط حكومة (بنيامين نتنياهو) بل دولة الاحتلال الاسرائيلي، وبالتالي هي كشفت للعالم أجمع الصورة الحقيقية البشعة لإسرائيل، وأنها ليست كما تم تصويرها حتى وقت قريب في معظم دول العالم، وبالأخص في الولايات المتحدة ودول أوروبا، على أنها "واحة" الديمقراطية الوحيدة في "صحراء" القمع العربي وأنها "فيلا في غابة"، دولة تسعى إلى السلام مع جيرانها، وتكفل المساواة لكافة مواطنيها، وأنها تملك الجيش "الأكثر أخلاقية في العالم" وهي المقولة التي طالما رددها قادة الاحتلال في كل مناسبة، حيث ثبت للعالم أجمع أنه الجيش الأكثر قذارة في العالم ويمارس الإبادة الجماعية. والحال كذلك، فإن العمود الفقري "للبروباغندا" التي روج لها الاحتلال الاسرائيلي على مر السنين لخداع الرأي العام العالمي لتثبيت أركان كيانه، وكسب التعاطف العالمي، تهاوى وتحطمت صورته التي خلصت إلى أن ما يتعرض له الفلسطينيون من إبادة، لا يمكن أن يقوم بها جيش يتمتع بذرة من "الأخلاقية" أو حكومة لديها ذرة من "الديمقراطية" والآن: ما العمل؟
المطلوب بعد هذا الانفضاح العالمي هو استثماره بطريقة تضمن ديمومته والعمل عليها منذ اللحظة، وهذه الطريقة الوحيدة التي تكرس وتعزز وترسخ الصورة القبيحة للاحتلال الاسرائيلي، و بالتالي الانتصار للحقيقة الفلسطينية على الرواية الاسرائيلية. وعملية الاستثمار لكل ذلك الانفضاح هي أساساَ مسؤولية فلسطينية، بدعم ضروري من المنظومتين العربية والإسلامية وجميع القوى الرسمية والشعبية العالمية الشاهدة على ذلك الانفضاح. وغني عن الذكر أن"عملية الاستثمار" المشار لها، تحتاج أولاَ وأخيراً، إلى إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني، ذلك أنه لامجال، لامجال إطلاقاَ، لاستثمار وديمومة ومأسسة هذه التحولات في غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية القائمة على قاعدة النضال السياسي و الدبلوماسي "الناعم" متواكبا مع مختلف أنواع المقاومات "غير الناعمة"، بما في ذلك الكفاح المسلح والتي لطالما استخدمتها حركات التحرر الوطني في معاركها ضد الاحتلال والاستعمار والاضطهاد بمختلف أشكاله، وبالتأكيد وفق ما اقرته القوانين والشرائع الدولية.
------------------
المطلوب بعد هذا الانفضاح العالمي هو استثماره بطريقة تضمن ديمومته والعمل عليها منذ اللحظة، وهذه الطريقة الوحيدة التي تكرس وتعزز وترسخ الصورة القبيحة للاحتلال الاسرائيلي، و بالتالي الانتصار للحقيقة الفلسطينية على الرواية الاسرائيلية.