ما يحدث في قطاع غزة على مدار ثمانية أشهر ونصف، يوماً بيوم، وليلة بليلة، صبحاً وظهراً ومساء، صيفاً وشتاء، ربيعاً وخريفاً، يُدمي القلب، ويُفتت الكبد، ويُجفف مآقي العين، لكن ما يجري حول غزة وخارجها، يبدد العقل، يُشتت الفهم ويشلّ التفكير.
لم تظل منظمة أممية في العالم، هيئة إنسانية، مؤسسة حقوقية، إلا وأعلنت موقفها الشاجب المستنكر لهذه الحرب الإبادية، لم يظل شارع في عواصم العالم العريقة بمختلف اللغات، إلا وشهد مظاهرات أو اعتصامات احتجاجية، حتى وصلنا إلى قرار شبه إجماعي من مجلس الأمن الدولي بضرورة وقف إطلاق النار. مشروع القرار مقدم هذه المرة من الولايات المتحدة، التي كانت قد تصدت له ثلاث مرات بالفيتو، مستنداً نصه إلى إعلان للرئيس جو بايدن، الذي نسبه في خطابه العلني إلى أنه مقترح إسرائيلي، ولم يفت وزير خارجية أمريكا في زيارته الأخيرة للمنطقة القول إن إعلان بايدن هو نفسه الذي وافقت عليه حماس في السادس من أيار الماضي –لم يقل إن إسرائيل رفضته، بل وردّت بأنها اجتاحت رفح وارتكبت فيها مجزرتها التي راح ضحيتها نحو 300 شهيد وجريح قضى معظمهم حرقاً (محرقة الخيام)، ووصفها نتنياهو بالخطأ الكارثي.
إنها بمثابة المتاهة، واحدة من متاهات السياسة الأمريكية التي توصلك البحر وتعيدك عطشانَ، متاهة الحماة التي قالت لكِنَّتها غداة عرسها: صحيح لا تقسمي ومقسوم لا تأكلي وكلي واشبعي. و مع ذلك، فإن التوصل لمعرفة أنك في المتاهة، حتى لو كان ذلك بعد ثمانية اشهر، بحد ذاته إنجاز. البعض استغرقه الأمر 30 سنة، ولمّا يعرف بعدُ أنه في المتاهة، ارتحل الرعيل الأكبر ممن دخل المتاهة قبل أن يكتشفوا أنها دهاليز متاهة.
دهليز متاهة "وقف إطلاق النار في غزة"، متفرع عنها دهليز أنها إبادة جماعية متعددة أوجه الموت بالقصف والقنص والهدم والتدمير والتجويع والتعذيب والتنزيح حتى تصل إلى أن تكره هذه الحياة، وترى في الموت خلاصا. هذا الدهليز، "وقف إطلاق النار"، قادم من دهليز أكبر مفاده: هل وقف إطلاق النار هذا، وسيلة أم غاية، وإن كان غاية، هل هي غاية إيجابية بنائية سلامية إنسانية، أم سلبية هدمية وحشية مكرية لارتكاب مزيد من جرائم الحرب والقتل والفتك والدمار؟
ومهما يكن من شيء، ومهما امتلكتم من قوة عسكرية جبارة، وجيوش جرارة، وأفانين ودهاليز ومتاهات، فإنكم لن تستطيعوا محو الطفولة من غزة، براءة الأطفال التي بدا أنها تشوهت خلال الحرب، أحلامهم الصغيرة، التي بدا أنها تشوهت وتركزت في الحصول على كسرة خبز أو قارورة ماء نقية، ذلك أنهم جزء لا يتجزأ من مكوّن غزة، شخصية غزة وجين غزة، ناهيك عن أنهم أحباب الله، وقول فدائيهم الأول عيسى بن مريم قبل أكثر من ألفي عام: دعوا الأطفال يأتون إليّ.