إطلاق خُطة الرئيس الأميركي جو بايدن التي أعلنت في ربع الساعة الأخيرة لحرب غزة، يعيد إلى الأذهان نهايات وعِبرة حرب أكتوبر/تشرين الأول، الأولى التي أطلقتْها انتفاضة العسكرية المصرية في السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، وهي التي سبقت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي عشناها في نفس الشهر من العام الماضي. ذلك أن الانتفاضتَين اتفقتا في عبقرية الأداء في البدايات، ثم تعرضتا للمكر الأميركي، وافترقتا في النهايات.
ليس لي أن أتكلّم عن المواجهة العسكرية، لكن العبقرية التي أتحدّث عنها أراها في كفاءة الإعداد والتمويه، وفي عنصر المفاجأة وبسالة التنفيذ الذي أربك المحتل الإسرائيلي. وفيما يخصّ الانتفاضة المصرية نستعيد الرئيس أنور السادات الذي تولّى السلطة في 1970، وبعد سنتين فقط قرر طرد الخبراء السوفيات من مصر، ملوّحًا بذلك إلى تغيير وجهته السياسية، كما ظهر جليًا في عبارته الشهيرة بأن 99% من الأوراق في يد أميركا، وهي الإشارة التي رصدت ووفرت له اتصالًا مباشرًا مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي آنذاك.
وإذ تمّ ذلك من خلال قنوات عدة، فإن ما يهمّنا أنه مكَّن الطرفين من الحديث في أمور عدّة، كان في مقدّمتها كيفية التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي لسيناء. في هذا الصدد، عبّر كيسنجر عن رأيٍ، خلاصته أن إسرائيل ليست مضطرة لفتح ذلك الملف ما دام الموقف مستقرًّا وهادئًا على الجبهة، ولا سبيلَ إلى تحريك ذلك الوضع إلا من خلال عمل عسكري يغيّر ميزان القوّة بين الطرفين.
التقط السادات الإشارة، خصوصًا أنّ الجيش المصري كان قد بدأ في استعادة توازنه، وهو ما أثبتته حرب الاستنزاف التي خاضتها القوات المسلحة المصرية بكفاءة مشهودة. إزاء ذلك تم تنشيط جهوزية الجيش مستهدفًا تحقيق الهدف المتمثل في تغيير ميزان القوة في سيناء.
وللعسكريين كلام سبق نشره، يشرح كيفية التعبئة واختراق خط بارليف، والالتحام المفاجئ بقوات الاحتلال، الأمر الذي صدم الجيش والحكومة في إسرائيل. وتمت العملية بكفاءة هددت بإنزال هزيمة ساحقة بإسرائيل في سيناء، الأمر الذي كان من شأنه تغيير ميزان القوة لصالح تفوّق القوات المسلحة المصرية، إلا أن طلائع الجيش المصري توقفت بعد العبور، فيما يصفه العسكريون بأنه «وقفة تعبويّة»، وكان ذلك قرارًا سياسيًا، نقلته رسالة وجهها السادات إلى كيسنجر- حينذاك لعب الدبلوماسي اليهودي لعبته.
إذ رغم الفزع الذي أصاب إسرائيل التي أبدت استعدادها لوقف إطلاق النار على الجبهة، فإنه رفض وقف القتال في تلك الظروف، ريثما يتغيّر الميزان العسكري لصالح إسرائيل أولًا. حينذاك تمّ تكثيف الجسر الجوي الأميركي؛ لإمداد إسرائيل بالأسلحة والمتطوعين. وبسبب وقف تقدم القوات المصرية؛ لأنها لم تذهب إلى أبعد مما تحقق في 6 أكتوبر/تشرين الأول، فإن إسرائيل انتهزت الفرصة وتقدّمت مدعومة بالقوات الجوية الأميركية؛ لتحقيق ثغرة «الدفرسوار»، ونقل المعركة إلى غرب القناة.
كيسنجر ظلّ يقوم بدوره، فاستمرّ في التسويف والمماطلة بعد صدور قرار مجلس الأمن (338) بوقف القتال، حتى تمكّنت قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي التي تواجدت في غرب القناة من قطع طريق القاهرة – السويس، الأمر الذي أدّى إلى عزل التجمع الرئيسي للجيش المصري الثالث الميداني. وكان ذلك في صالح إسرائيل؛ لأنّ الثغرة في بدايتها كانت جيبًا متواضعًا لا يغيّر المعادلة لصالحها.
ولإحكام التمكّن فإن كيسنجر أيّد فكرة عدم ارتداد القوات الإسرائيلية إلى خطوط 21 أكتوبر/تشرين الأول (وقت صدور قرار وقف القتال)، وأقنع مصر بقبول الأمر الواقع، والتفاوض على أساس الوضع المستجدّ. ثم قام بدوره في ترتيب اللقاءات المباشرة العسكرية والسياسية بين مصر وإسرائيل تحت رعاية الأمم المتحدة والإشراف الأميركي.
بقية القصة معروفة. إذ عُقدت مفاوضات اللجان العسكرية، وتواصلت اللقاءات والاتصالات السياسية على نحو وطّد العلاقات بين السادات وكيسنجر. وهو ما مكّن وزير الخارجيّة الأميركي من توجيه المفاوضات ونتائجها إلى ما يحقّق المصالح الإسرائيلية على نحو مهّد الطريق ليبلغ مداه، ويحقق الغاية بتوقيع معاهدة كامب ديفيد، بحيث لم يخطر على بال أحد أن العبور العظيم الذي تحقّق في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، سينتهي بأكبر وأخطر اختراق إسرائيلي للصف العربي والوطن العربي جراء تلك المعاهدة، واعتبر ذلك نموذجًا يضرب به المثل في إجهاض المعركة العسكرية التي تم إنجازها في البداية بما يفضي إلى خسارة الحرب بالألاعيب والحيل السياسية في نهاية المطاف.
هذا النهج الأميركي المنحاز والمراوغ، تم اتّباعه لاحقًا بعد ساعات من انطلاق مفاجأة «طوفان الأقصى» التي هزّت أركان الدولة والجيش في إسرائيل، وكانت الشخصية الأبرز التي ظهرت على المسرح الأميركي هذه المرّة هو الرئيس بايدن الكاثوليكي الذي تباهى بصهيونيته أمام الملأ، وإلى جانبه وزير خارجيّته أنتوني بلينكن الذي ذكَّر الجميع بأصوله اليهودية في أول زيارة له لإسرائيل بعد "طوفان الأقصى".
وذلك الاستنفار الأميركي لم يكن محليًا فحسب؛ لأنّ صداه وصل إلى الجميع، بما فيه العالم العربي، فضلًا عن الإسلامي. وذلك يفسّر على الأقلّ حالة السكون المثير للانتباه الذي خيّم على أغلب العواصم العربية بعد الحرب، مثيرًا السخريةَ المُرّة التي ذكرت أن صوت الغضب في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك، كان أكثر قوة وحضورًا من صوت جامعة الدول العربية بجلالة قدرها.
ثمّة دروس بلا حصر كشفت عنها حرب غزة، أحدها أن الولايات المتحدة ليست منحازة لإسرائيل فحسب، ولكنها شريك حقيقي في القتال، في حين تتجمّل أحيانًا بالوساطة والتهدئة. فلا تمانع ولا تخجل مثلًا في إشراك طائرات سلاح الجو الأميركي في إلقاء بعض المواد الإغاثية للفلسطينيين من الجو إلى البحر، في الوقت ذاته تغرق إسرائيل بالأسلحة الفتاكة لإبادة الفلسطينيين. وتتبنّى الترويج لحلّ الدولتين، في حين تعارض انضمام دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة، وتقدّم نفسها زعيمة للعالم الحرّ ووسيطًا لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط، بينما تعارض وقف القتال في القطاع.. إلخ.
ما فعله كيسنجر أنه قام بدوره في إنقاذ إسرائيل من أزمتها حين فوجئت بعبور الجيش المصري في 1973، كما تولى ترتيب تغيير ميزان القوة لصالح المحتلّ، بما انتهى إلى إخراج مصر من الصفّ العربي باتفاقية كامب ديفيد. ولا مفرّ من استدعاء هذه الخلفية في قراءة سياسة بايدن منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو الذي تواجد مع أجهزته وجيشه إلى جانب إسرائيل في اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى"، ولم يساعد إسرائيل في أزمتها ولم يحارب إلى جانب جيشها فحسب، وإنما فعل ما هو أكثر، حين برّر لها كل جرائمها التي تابعها العالم بأسْره على الهواء مباشرة، فاعتبر أنها لم تتجاوز الخطوط الحمراء وهي «تدافع عن نفسها». ولحفظ ماء الوجه بعدما طال أمد القتال، وفشلت إسرائيل في تحقيق شيء من «أهدافها الإستراتيجية» المعلنة، أعلن في الشهر الثامن من الحرب عن خُطة لوقت القتال من ثلاث مراحل دعت إلى إطلاق الأسرى الإسرائيليين في المرحلة الأولى، وركّزت على «التفاوض» مفتوح الأجل في المرحلتين التاليتين.
إن إدراكنا الدورَ الإسرائيلي في المشروع الذي قدّمه الرئيس الأميركي، ينبّهنا إلى وجهته، ويشككنا في صدقية معدّيه، فضلًا عن أهدافه. إذ كان واضحًا أن مراده يستهدف حشر حركة حماس في الزاوية، واتّهامها بأنها تعارض وقف القتال. وكان ذلك واضحًا في مسارعة المسؤولين الأميركيين الذين ادّعوا أن الكرة في ملعب حماس، ويجب عليها أن توافق على خطة المشروع، رغم أن محتواها يصبّ بالكامل في صالح إسرائيل؛ حتى يبدو وكأنه بمثابة إعلان عن انتصارها في الحرب.
ورغم أن رفض الخطة كان يبدو متوقعًا وضروريًا، فإن قيادة حماس تصرّفت بذكاء وحنكة، بعد أن رحبت بالقرار فقط ولم تعلن قبوله، وأعلنت أن لها بعض الملاحظات على مضمونه. ذلك أن المحتوى الذي تمّت صياغته باللغة الكيسنجرية الفضفاضة يتجاهل نقاطًا جوهريًا ويبيع كلامًا ناعمًا ومعسولًا يمكن تأويله وتفسيره على نقيضه وعكس مراده.
أذكر في هذا الصدد أنه خلال الأسابيع السابقة تداول الوسطاء أوراقًا وأفكارًا قدمتها إسرائيل أثناء المفاوضات، لفتت الانتباهَ فيها عبارةُ وقف إطلاق النار بما يوفر «الهدوء المستدام»، الأمر الذي أثار التساؤل عما إذا كان ذلك يعني وقف القتال بصفة دائمة أم مؤقتة، مما استدعى لجوء الطرف الفلسطيني إلى خبراء القانون في لاهاي، حيث الذراع القانوني والقضائي الأعلى للأمم المتحدة، ومنهم من شارك في اتفاقية أوسلو.
وحين تمّ استفتاؤهم في ذلك كان من رأيهم أن مصطلح «مستدام» لا يمنع من تجديد القتال في المستقبل، وهو ما يفسّر إصرار الطرف الفلسطيني على توضيح الصياغة، بحيث يكون النص صريحًا في إشارته لوقف القتال بصفة دائمة، وليست مؤقتة، وهو ما رفضه الإسرائيليون لأسباب متوقعة.
هذا التلاعب اللغوي نموذج للفخاخ الموجودة في الخطة المقترحة، من قبيل ذلك أيضًا النص على الانسحاب من المناطق المأهولة في غزة، الأمر الذي يعني أن الانسحاب ليس كاملًا، وأن التواجد العسكري (الاحتلال) للقطاع سيظلّ قائمًا.
كما أن في الخطة بندًا يتعلّق بتسهيل دخول المواد الإغاثية إلى القطاع، متجاهلًا جميع التوصيات الأممية بفتح المعابر دون قيودٍ، وسكوتًا على استمرار الحصار المضروب منذ سبعة عشر عامًا. في الخطة أيضًا اعتراف بمعاناة الشعب الفلسطيني يتجاهل الإشارة إلى دولة فلسطين التي باتت مطروحة عالميًا، ولا يذكر حتى حلّ الدولتين الذي تسوّقه واشنطن منذ أكثر من ثلاثين عامًا.
من الأمور المضحكة في الاقتراح أنه ترك بعض المسائل الدقيقة لـ «التفاوض بين الطرفين»، وكأن التجربة الفلسطينية المعاصرة ليست شاهدًا على هذه الخدعة المكشوفة، وأن شعبها وقادة مقاومتها ليسوا بلا ذاكرة، وأنهم سيعودون إلى لعبة التفاوض الذي يمكن أن يستمر عشرات السنين بلا طائل. وليس بعيدًا عن الأذهان مصير «عملية السلام» وسردية حلّ الدولتين التي لا يأخذها الداعون لها على محمل الجد.
لم يعد هناك شكّ في أن إسرائيل فشلت عسكريًا في غزة. ومن الواضح الآن أنها باتت تعول على الجهد السياسي والدبلوماسي، رغم الفضائح التي باتت تلاحقها سياسيًا وأخلاقيًا وقانونيًا. لكن ما يؤرقنا حقًا أن يتم توريط الطرف العربي في اللعبة الجديدة من خلال من يسمون بالحلفاء العرب الذين ننزههم عن المشاركة في شوط الختام، سواء كلاعبين أو حتى كبدلاء.