كتب دانيل غرنفيلد الصحافي والباحث في مركز غيتستون الأميركي يوم 14-6-2024 المقال المنشور في كثير من المواقع الرقمية الإسرائيلية قائلاً: "فشلت أميركا في التعامل مع الدول التي خاضت فيها حروباً ضد الإرهاب، وخسرت أميركا آلاف الضحايا، ورغم ذلك لم تتحرر تلك الدول بل بقيت تحت سيطرة الإرهاب، لقد شارك قادة الجيش الأميركي السابقون والحاليون في كثير من الهزائم، مثل الجنرال، دافيد بترايوس، ومارك هيلي، وماك كرستال، والقائد الحالي تشارلز براون، الغريب أن هؤلاء القادة العسكريين هم اليوم يطلبون من إسرائيل أن تطبق نظريتهم الفاشلة وموديلهم الحربي في مكافحة الإرهاب!
خسرت أميركا حروبها خلال خمسين عاماً، بسبب سياستها في تطبيق استراتيجية كوين أو Counterinsurgence ومضمون هذه السياسة والاستراتيجية تُلخص في شن حرب بين دولة وبين منظمات إرهابية، أي خوض حرب إعلامية واجتماعية واقتصادية وتفاوضية مع المنظمات الإرهابية وليس حرباً عسكرية، من أجل الحصول على الهدوء، حين يكون التفريق بين الإرهابي والبريء غير واضح.
إن هذا النموذج الفاشل لا يُخلّف سوى الأرامل واليتامى في صفوف الجيش الأميركي! استبعدتْ إسرائيل هذه الاستراتيجية الأميركية بعد السابع من أكتوبر، وانتقلت من الدفاع إلى الهجوم، واستخدمت استراتيجية عسكرية جديدة وهي مهاجمة الأعداء في كل موقع، وليس في مكان محدد، واتخذت قراراً بمحو المناطق المكتظة بالسكان، وتدمير البنية التحية للإرهابيين لتقضي على قوة الأعداء، مثلما فعلت في مستشفى الشفا في غزة، فقد دمرت المستشفى، وأعادت احتلاله مرة أخرى واعتقلت العديد من حركة الجهاد الإسلامي والقليل من قادة حركة حماس، ومنعت الإرهاب من العودة للمكان، هذه هي سياسة إسرائيل، وهي قلب الطاولة ومفاجأة الأعداء، أثبتتْ إسرائيل بهذه السياسة فشل استراتيجية كوين الأميركية!
واصل الكاتب غرنفيلد، وصف إستراتيجية أميركا الفاشلة: حاول الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق دعم مجموعة إسلامية ضد أُخرى فجاءت النتيجة عكسية، وقعت العراق في قبضة شيعة إيران!
الأميركيون يطلبون من إسرائيل أن تفعل مثلهم؛ أن تشجع أنصار المنظمة أن يحاربوا حماس في غزة! كذلك اقترحت أميركا وفق استراتيجيتها السابقة أن تتولى الدول العربية حل مشكلة غزة للحصول على الاستقرار، ولكنها لم تنجح، فقد كانت أميركا تطارد بن لادن، وكانت تعلم أن الباكستان وفّرت له ملجأ عسكرياً فيها، وأن خالد الشيخ محمد نائب بن لادن كان يعيش في قطر، وهو الذي خطط لتدمير أبراج التوأم في نيويورك 11-9-2001. إن استراتيجية إسرائيل تختلف عن استراتيجية أميركا! كما أن اتفاقية أوسلو التي كان من نتائجها انسحاب إسرائيل من غزة، واتفاقية كامب ديفيد وكان من نتائجها انسحابها من سيناء، هي السبب فيما حدث يوم السابع من أكتوبر 2023.
لقد سهلت اتفاقات السلام وفق استراتيجية كوين الأميركية على "حماس" بناء جيشها وسيطرتها على غزة، ومن أبرز أسباب حدوث السابع من أكتوبر أيضاً هو تفضيل الحلول السياسية السلمية على الردع العسكري، إسرائيل اليوم تفعل عكس ذلك، تدمر قواعد "حماس"!
يدّعي بايدن أن تدمير جيش إسرائيل للبنية التحتية للإرهاب سيؤدي إلى سيطرة "حماس" على غزة، بينما الهدف الحقيقي لإسرائيل هو القضاء على قادة "حماس" وتحجيم قدرات "حماس" إلى أقصى مدى!
يطلب وزير خارجية أميركا بلينكن من إسرائيل أن تملأ الفراغ إذا غادر قادة "حماس" غزة، خشية حدوث الفوضى! إن إسرائيل تفضل أن تعيش إلى جوار جزيرة هايتي، على أن تعيش إلى جوار إيران في غزة!
إسرائيل تسعى لتقليل خسائرها، مع تضخيم نتائج الحرب، وهذا ما يجب أن يتعلمه الأميركيون! لا يجب على جيش إسرائيل أن يعتمد على النوايا الحسنة والقلوب الرهيفة، والتفاوض السلمي مع الإرهابيين، بل يجب الاشتباك مع الأعداء وإبعاد قادة الإرهاب وتدمير البنية العسكرية لهم، هناك أملٌ أن يحذو عسكريو أميركا حذو جيش إسرائيل في كل مرة تدخل فيها أميركا حرباً من الحروب"!
حرضني مقال غرنفيلد وهو باحث مختص بالحركات الإرهابية، ويعيش في نيويورك، على إعادة الكتابة عن فيض الخبراء والمعلقين والباحثين الفلسطينيين والعرب في معظم الفضائيات ووسائل الإعلام، هذا الفيض في معظمه غثاءٌ فكري، يُسهم في نشر فيروسات الرعب وأمراض الإحباط وجرعات الغرور الزائفة، أو انتظار المجهول المخيف، أو العيش في الأحلام، ولا يقدم الحد الأدنى من الوعي والثقافة وبناء المستقبل!
تعلمتْ إسرائيلُ من تجاربها المتعددة، أنتجتْ مصانع عديدة لتقديم وجبات الأفكار، فقاد المفكرون والكتابُ كبارَ السياسيين، ولم يحدث العكس عندما يقود السياسيون الكتّابَ والمثقفين! سأظل أتذكر أن كل أعضاء الكنيست يتبادلون نشر وتوزيع مقالات الكتاب المعروفين بإنتاج الأفكار، هم يقرؤون كل الآراء، ويعملون على صياغة الأفكار لتتحول إلى خطط عملية لتقوية إسرائيل! تذكرت أن معظم المبادرات السياسية جاءت من قريحة الكتاب والمحللين، وأن معظم الخطط الاستراتيجية الإسرائيلية وُضعت بالاستفادة من تقارير مراكز الدراسات والأبحاث المختصة، ومن مراكز الأبحاث في الجامعات مثل جامعة بن غوريون، والجامعة العبرية، وجامعة تل أبيب، وهم اليوم قد سخَّروا جامعة رايخمان الحديثة لتقديم المشورة للسياسيين!
لا يجب أن نُغفل أن هناك باحثين فلسطينيين كثيرين لا يتفوقون على الباحثين الإسرائيليين فقط بل يفوقونهم، إلا أن هناك فجوة بينهم وبين مراكز القيادة، والسبب في ذلك لا يرجع إلى نضوب مخزوناتهم الثقافية، بل يعود إلى سياسة تكميم الأفواه ومحاصرتهم في الحياة والرزق، بالإضافة إلى أن أكثر تلك الدول النامية أو النائمة تحظر فتح ملفاتها ليدرسها الكتّاب والمثقفون ويبنوا عليها صرحاً فكرياً جديداً!
سأظل أردد حكمة نابليون بونابرت: "يستطيع الحكام البقاء في الحكم مدة طويلة إذا تحكّموا في الأقلام"!