ذهبت أدراج الرياح "المبادرة الإسرائيلية" التي تبنّاها علناً الرئيس الأميركي جو بايدن، وألقى بثقله خلفها، وجنّد مجلس الأمن الدولي وعشرات الدول، بما في ذلك العربية، فمرّة أخرى بعد عديد المرّات تفشل المفاوضات في التوصّل إلى اتفاق صفقة يؤدّي إلى تبادل الأسرى ووقف الحرب الدموية، ولم تنفع التهديدات لممارسة ضغوط شديدة في تغيير المواقف.
في الأصل، فإنّ الضغوط اتجهت نحو العنوان الخطأ، حين أصرّت الإدارة الأميركية وبعض الحلفاء على أن حركة "حماس" هي الطرف المعطّل للصفقة، وكان ينبغي أن تتجه نحو حكومة الاحتلال، التي يصرّ رئيسها بنيامين نتنياهو على مواصلة الحرب حتى تحقيق الانتصار.
مجريات الحرب منذ بدايتها أظهرت بما لا يَدَع مجالاً للشكّ أنّ الولايات المتحدة منخرطة فيها، بكلّ إمكانياتها، والخلاف مع نتنياهو ليس على استمرارها لتحقيق أهدافها، وإنّما على طريقة إدارتها، لتحقيق ذات الأهداف المتفق عليها.
ولكن حتى بحدود هذا الخلاف كان نتنياهو صاحب القرار، ولم يستمع لو لمرّة للنصائح والطلبات الأميركية، بل إنه مارس على إدارة بايدن ابتزازاً واضحاً ووقحاً.
لا يهتمّ كثيراً نتنياهو بما تريد إدارة بايدن إنجازه لتمكينه من الفوز بالانتخابات الرئاسية، بل إنه يعمل على ترجيح كفّة دونالد ترامب، كما أنّه لا يهتمّ بعودة الأسرى الإسرائيليين سالمين، فهو لا يتوقف عن إطلاق وعوده باستعادتهم أحياءً أو أمواتاً، ومن خلال الضغط العسكري، وينتقد ناكر الجميل، نتنياهو، إدارة بايدن، ويتهمها بوقف إمدادات السلاح والذخيرة لإسرائيل، ورغم امتعاض الأخيرة يعود ويقول: إن الإمدادات الأميركية تأتي بالقطّارة. في الواقع فإنّ السؤال الذي ينهض بقوة هو: لماذا تحتاج الدولة العبرية إلى إمدادات السلاح والذخيرة بهذه الكثافة من قبل أميركا، إذا كانت تدّعي أنّها القوة الأقوى في الشرق الأوسط وصاحبة الجيش الذي لا يُقهر، وتتطلّع لأن تتسيّد أحلافاً في المنطقة، وتضمن حماية العرب المرتجفين من إيران؟
ألا يعني ذلك أن إسرائيل ضعيفة من دون الدعم الأميركي، غير المحدود. لقد تلقّت كميّات هائلة من الأسلحة والذخائر عَبر جسر جوي وبحري لا يتوقف، وكل هذا في مواجهة المقاومة الفلسطينية وحلفائها، ومن دون أن تحقق أي هدف حتى الآن، وفي معركة تجاوزت في وقتها كلّ التقديرات.
أرادت الإدارة الأميركية حصر ميدان الحرب في فلسطين، على أمل أن يؤدي تحقيق الانتصار إلى فتح ملف الشرق الأوسط واستكمال عملية "التطبيع"، وإغلاق ملف القضية الفلسطينية عَبر وعود كاذبة تعوّدت على إطلاقها منذ زمن.
وأرادت إسرائيل أن تغلق ملف القضية الفلسطينية، وملف التهديدات الأمنية الصادرة عن قطاع غزّة والضفة الغربية، والقدس والمحيط القريب، ثم بعد تحقيق ذلك، تفتح ملفّ المنطقة، بإدارة إسرائيلية أقوى وتحظى بالأولوية عن الولايات المتحدة، حين تحقق إسرائيل أهداف الحرب سيكون بمقدورها أن تفرض على العرب وغيرهم، "تطبيع" العلاقات من دون شروط لا تناسبها، وبأقلّ الأثمان.
أما وأن الحرب امتدت زمانياً، فلقد بات من غير الممكن أن تكون حرب أنصاف الحلول، أو أنصاف الأهداف، فلقد وصل السيف العظم.
لا يمكن أن تتوقّف الحرب، ويدّعي الطرفان تحقيق الانتصار، ولذلك فإنها تتجه نحو أن تكون حرب النهايات. الآن تشير الإعلانات الإسرائيلية إلى أن الحملة على رفح على وشك الانتهاء، والدخول في المرحلة الثالثة كما تقول المصادر السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
وحتى يتم الانتقال إلى المرحلة الثالثة سيتجنّد الإعلام الإسرائيلي للحديث عن الإنجازات الإستراتيجية الكبرى التي حققتها الحملة على رفح.
المرحلة الثالثة من الحرب تعني بقاء القوات الإسرائيلية في "محور نتساريم" و"محور فيلادلفيا"، وعلى الشريط الحدودي شرقاً وشمالاً داخل القطاع، والاعتماد على الطيران الحربي للقيام بالقصف، وربما بمساعدة سلاح المدفعية والبحرية، ولكن من دون دخول قوات برية كبيرة تشكل هدفاً للمقاومة.
في هذا الصدد لا بدّ وأنّ المقاومة قد أخذت هذه الحسابات بعين الاعتبار، إزاء كيفية مواصلة التصدي لقوات الاحتلال مباشرة، من دون الاعتماد على إطلاق الصواريخ، التي لم يتبقّ لديها مخزون كاف لمعاقبة العدو.
الاحتلال يجري الاستعدادات لنقل المعركة إلى جنوب لبنان، ذلك أنّ الحرب لا يمكن أن تتوقّف وتحقّق الأمن للإسرائيليين في ظلّ وجود مقاومة مسلّحة في القطاع، وفي الجنوب اللبناني من قبل "حزب الله".
يبدو أنّ دولة الاحتلال لم تنتبه بالقدر الكافي، وخانتها قدراتها الاستخبارية عن معرفة مستوى التطوّر الذي أحرزته المقاومة الفلسطينية واللبنانية في مجال تطوير قدراتها التسليحية والاستخبارية والعملياتية بالقدر الذي يشكّل تهديداً وجودياً حقيقياً على الدولة العبرية.
كانت إسرائيل تشنّ عدوانات على القطاع، تستهدف كل الوقت تقليص قدرات المقاومة الفلسطينية إلى الحدّ الذي لا يشكّل تهديداً حقيقياً، وقد اكتشف أنها خضعت لعملية تضليل حين فشلت في تحقيق أهدافها خلال أسابيع أو أشهر قليلة.
وخلال حرب تموز 2006، اعتقدت إسرائيل أنها تمكنت من تحجيم قدرات "حزب الله"، وأنّها نجحت في إبعاد قواته وتواجده عن الحدود الجنوبية، ولكنها تكتشف أنّ الفارق نوعي وكبير بين ما كان يمتلكه الحزب العام 2006 عمّا يمتلكه الآن.
الاستنتاج هو أنّ إسرائيل اليوم عليها أن تخوض حرباً استباقية متأخّرة، لإنهاء تهديدات المقاومة في غزّة، وفي جنوب لبنان، لأنّ المزيد من الوقت دون ذلك سيمكّن فصائل المقاومة من تضخيم ترساناتها، بما يشكل تهديداً وجودياً حقيقياً وساحقاً على دولة الاحتلال.
واقع الحال الميداني يشير إلى أنّ المقاومة الفلسطينية ليست في وارد التسليم أو التوقف بعد هذا الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب الفلسطيني، إلّا بوقف دائم وانسحاب كامل من غزّة، سيكون انتصاراً للشعب الفلسطيني ومقاومته، وإذا حصل هذا فإنّ المقاومة ستكون قد قطعت الطريق أمام أحلام الإدارة الأميركية، وأوهام حكومة نتنياهو فيما يتعلق بالوضع في المنطقة، والقضية الفلسطينية.
وأمّا توقف الحرب بموافقة إسرائيلية، فإنّه يعني الهزيمة وتفكيك "الائتلاف الحكومي"، وفقد الردع والأمن، بما في ذلك من آثار كارثية على دولة الاحتلال ومشروعها الاستعماري.
وفي هذه الحالة سيساق "جناة الحرب"، ورئيسهم نتنياهو وعديد وزرائه، إلى المحاكم المحلية بالإضافة إلى المحاكمات الدولية التي يتسع نطاقها ليشمل الجيش والمستوطنين والحكومة.
واضح أنّ قرار وقف الحرب العدوانية بيد أميركا، ولكن كما يتضح فإنّ رئيسها ووزير خارجيتها، ليس بمقدورهما وقف جنون نتنياهو وفريقه، وهما لا يملكان إلّا مواصلة تقديم كل الدعم المالي والتسليحي والدبلوماسي وفق حسابات رئيس حكومة الاحتلال الذي يتلاعب بهم ويحولهم إلى مجرد موظفين لديه، يكافئهم وقتما يشاء ويعاقبهم ويوجه لهم الإهانات وقتما يشاء.
الحرب ليست مع «حماس»
10 اغسطس 2024