لأول مرة أكرر العنوان في مقالين فصل بينهما الزمن بثلاثة عشر عاما لرجل كان قد أجرى تجربة انسحابه المؤقت قبل أن ينسحب نهائيا .. حينها فاجأتنا الصحف في ايلول 2003 ذات صباح بمقال صادم لعميد الصحافة العربية محمد حسنين هيكل بعنوان «استئذان في الانصراف» أراد الرجل أن يبلغ قراءه الذين اقتطعوا الكثير من وقتهم لمتابعة ما يكتب أن يستأذنهم بالانسحاب بعد أكثر من ستة عقود من العمل الصحافي، فقد بلغ عامه الثمانين.
يومها بعد الانتهاء من المقال الطويل الذي حاول فيه الرجل أن يشرح أسباب الرحيل ورد خبر إصابة الصحافي حسن الكاشف بجلطة، هرعنا ثلاثتنا الأستاذ طلال عوكل والأستاذ هاني حبيب وأنا الى المستشفى ..
كان الأستاذ الكاشف حينها يصدر مجلة أسبوعية بعنوان «الدار» وكان موعد ذهابها للمطبعة بنفس اليوم، والتفت متعبا للأستاذ طلال عوكل طالبا أن ينوب عنه في كتابة الافتتاحية .. استأذنتهم أن يسمحا لي بكتابتها لأن هيكل صاحب فضل كبير، وعلي أن أسدد القليل منه بمقال شكر، وكان عنوانه «هيكل» اما ولماذا العنوان كلمة هيكل، لأن قامة بهذا الحجم هي عنوان ساطع لوحدها ولا تحتاج الى بريق أو شرح.
قبلها بأربع سنوات كانت قد صدرت في القاهرة مجلة شهرية بعنوان «وجهات نظر» خرج العدد الأول منها في الأول من شباط عام 99 والتي كانت أيقونتها محمد حسنين هيكل يكتب مقدماً كعادته جديدا في الصحافة، وهو المقال المطول، أكبر من مقال وأصغر من كتاب، وأطلق عليه الكتاب المختصر، يتناول فيه حدث الشهر بهالة من المعلومات والتحليل بلغته المعهودة التي تخلط التاريخ بالسياسة بالأدب بالأساطير، لتشعر في لحظة ما أنك تعيش الأحداث بتفاصيلها وأجوائها النفسية حتى، ليس فقط بالوثائق والمعلومات التي تجعلك تعتقد أن كل أجهزة الأمن في العالم كأنها تعود في آخر النهار بما في جعبتها من معلومات لتضعه بين يدي «الاستاذ» فيقدمها لك في سياق تاريخي طويل ليس باعتبارها حادثا عارضاً، بل لأنها جزء من نهر السياسة المتواصل بمياهه ورماله وأوساخه وانكساراته وانتصاراته.
هيكل ليس رجلا عاديا في عالم الفكر والثقافة، وهو ظاهرة لن تتكرر في عالم الصحافة العربية، وهو ليس واحدا من الصحافيين الذين عاصروا التاريخ وكتبوه عن قرب، بل مفكر كان محركا للتاريخ في لحظة ما، وفي لحظات كثيرة حاول أن يصد بقلمه حركة التاريخ المعاندة، وخاصة ما تبدى منها مع نهايات حرب أكتوبر والتي انتهت بعد ثماني سنوات إلى أن يجد نفسه سجينا في زنزانة، بل ظل معاندا حتى السنوات الأخيرة حين ترك وصيته قائلا «لا تتركوا الأسد لذئاب الربيع العربي» وكان يعرف ما يقول.
كان القرن العشرون الذي عاش ثلاثة أرباعه قد شهد أقصى جموح لحركة البشر وجنونها، عصر الحروب الكونية واستعمار العرب وإقامة إسرائيل ونشوء القضية الفلسطينية التي كان يغطي أحداث حربها ميدانيا وإقامة الجامعة العربية وعصر النهوض العربي وعصر الانحطاط العربي أيضا ..
كان تاريخ القرن يبدو أمامه كلعبة شطرنج تحرك عليها الفرسان والأحصنة والفيلة وانهارت عليها قلاع وسقط على ساحتها الملوك، لذا كان صاحب أحكام تقف خلفه خبرة نادرة وتجربة هائلة في معمل التاريخ وذكاء نادر، لذا تودد له القادة والزعماء والملوك، وبلغت هيبته حداً لم يستطع أحد من معارضته إلا بعض الاخوان الذين لا يعترفون بالكتاب إلا حين ينطقون باسمهم. لقد كان درس هيكل الأهم في العالم العربي أن سلطة الصحافة تعلو على سلطة السياسة، وأن على السياسي أن يخاف الصحافي وليس العكس، وألا يسقط الصحافي في إغراءات السلطة والمناصب، فقد قدم الرجل استقالته من الوزارة لحظة غياب جمال عبد الناصر والتي كان قد قبلها بكمين نصبه له الزعيم التاريخي بعد أن رفضها مرارا، ولم يجد عبد الناصر إلا أن يعلن ذلك التعيين ويسمعه هيكل من الراديو، وبذلك لا يستطيع الاعتذار حتى لا يحرج صديقه. وفي الاجتماع الأول لمجلس الوزراء بقي هيكل صامتا، وحين طلب منه عبد الناصر الحديث قال كما كتب في كتابه الجورنالجي «دا الموضوع حياخد مانشيت كويس في الأهرام بكرة» ليصرخ به عبد الناصر «برضو صحافة يا هيكل» هكذا كان الصحافي الذي أخلص لمهنته على أية مهنة أخرى وأعلى من شأنها لتضعه الصحافة نجما في مصاف العظماء.
لقد كان هيكل ظاهرة في الفكر السياسي وفي الصحافة التي لم تتكرر، إنه نموذج المثقف الذي جاب كل محيطات السياسة، وعد أمواجها وخبر شواطئها، تغلغل في أسرار الحكام ليخاطب البسطاء بلغة غاية في المرونة والسهولة، وفي لحظة يشعرك أنه يقدم لك التاريخ والسياسة كرواية أدبية ننتظر نهايتها وما حل بأبطالها، لذا قال البعض لو لم يكن هيكل صحافيا لكان روائيا كبيرا بل من أهم كتاب الرواية، لكن الرجل لم يجامل أحدا، اختلف مع السادات ومع مبارك ومع معظم الملوك والرؤساء العرب كاشفا العلاقات السرية والخيانات الصغرى والكبرى.
كان هيكل العقل الأكثر رصانة في العالم العربي، الحكيم الذي يجلس في صومعته، وبدا الجميع قويا وأحزاب وملوك وتيجان وزعماء وعروش تتسابق في الحجيج لسماع النصيحة .. لم يكن ممكنا أن يذهب مرشحو الرئاسة في مصر نحوها دون سماع «الأستاذ» بمن فيهم مرشح الأخوان ولم يكن لحركة حماس إلا أن تزور الصومعة لحظة الفوز والنشوة لتسمع من الأستاذ، ولكنها لم تسمع عندما كان وهج السلطة أكثر إشعاعاً من صوت العقل .. لقد اعتدنا على هذه الغزارة في المعلومات والتحليل .. أجيال من الصحافيين العرب أصبحت شيئا مهما في الصحافة في عالمها، لأنها تمكنت من التقاط القليل مما سال من هيكل، كان مدرسة مدعاة للتقليد في الفكر مدرسة مميزة في الصحافة .. إنه الصحافي الوحيد الذي أقنع القارئ الغربي أن لدينا ما يتفوق عليهم .. إنه الأستاذ الذي كان يقلده أجيال من التلاميذ إلى الدرجة التي جعلت نقيب الصحافيين المصريين السابق مكرم محمد أحمد يقول «قلدنا هيكل حتى في الكرافتة» فقد كان للأستاذ سحره الخاص.
ليست الصحافة العربية بل الثقافة العربية أصيبت باليتم لغيابه، كان يشبه الآباء الروحيين لها، فقد قدم أكثر مما تقدمه مؤسسات .. كان قوميا عروبيا حتى اللحظة الأخيرة، تعاطى مع الزعماء باحترام نادر كأنه أكبر منهم .. لم يسقط في بئر الصراع المذهبي، حاول أن يصد حركة الجنون العربي، ولكن يبدو أن الجنون هذه المرة تجاوز كل طاقات العرب، لقد صعد هيكل في ذروة النهوض العربي ويغادر في ذروة الانهيار تاركنا نأكل بعضنا ونتآكل..!