يشكل صعود اليمين المتطرف في أوروبا تهديداً حقيقياً للسياسة الأوروبية من جهة أنه يعكس نزعات وطنية صرفة على حساب المشروع الأوروبي العام. ومن المؤكد أن غلاة اليمين في الدول الأوروبية ليسوا من دعاة التكامل الأوروبي ولا يفضلون دفع عجلة هذا التكامل للأمام، لا من جهة تعميقه ولا من جهة توسيع عضوية الاتحاد ليشمل بلاداً أخرى، إذ إن تعريف الهوية الأوروبية يضيق أكثر من منظور يميني. فكثير من دول اوروبا الشرقية خاصة في أقصى شرق القارة ليسوا أوروبيين كاملين بل هم اكثر سوفيتيين مثلاً. أسئلة الهوية الأوروبية أسئلة شائكة بشكل عام في النقاش الأوروبي، لكنها تغدو أكثر تعقيداً عندما يتعلق الأمر بمستقبل الاتحاد نفسه الذي بدا كمشروع اقتصادي لتخفيف الاحتقان في القارة العجوز فيما يتعلق بصناعة الفحم والحديد بوصفهما مصدر الصناعة. إن تحييد عناصر انتاج القوة سيعني تحييد القوة ذاتها، لذلك فإن مجمل المشروع الأوروبي قام على فكرة تجنيب القارة أي نزاعات مستقبلية. ومنذ اللحظة الأولى لظهور الفكرة في أدبيات آباء التكامل الأوروبي لم تتوقف عن الحضور بكثافة في النقاشات الداخلية والحزبية للدول الأعضاء التي كانت ستاً في البداية قبل أن تتوسع على موجات مختلفة ومتباينة في العدد وفي الفترات الزمنية. كان سؤال مستقبل أوروبا حاضراً بقوة في كل نقاش أوروبي أوروبي كما في كل نقاش حزبي داخل الدول الأعضاء.
لم تلق أفكار الإيطالي سبنيلي من سجنه حول الفيدرالية الأوروبية ترحيباً كبيراً من قبل الأحزاب السياسية ذات التوجهات اليمينية، كما لم تكن مقترحات روبرت شومان وزير خارجية فرنسا وأحد مهندسي الوحدة الأوروبية محط ترحاب بشكل عام، وحين تطور المشروع الأوروبي تم بهدوء وبحذر، معتمداً على أقل نظرات التكامل الوظيفي والسياسي فاعليةً القائمة على التأثيرات المتتابعة التي بدورها تخلق نتائج نوعيةـ وفي مرات لم تكن مقصودة.
ما أقوله هنا أن هذه التحولات والزحف البطيء نحو التكامل والوحدة الأوروبيين لم يكونا محل ترحيب ولا تصفيق في دوائر اليمين الأوروبي الذي كان ضعيفاً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، نظراً للربط السهل بين الأفكار اليمينية المتطرفة وبين المركزية الوطنية التي أنتجت التطرف الأوروبي في ألمانيا كما في إيطاليا، وفي أماكن أخرى حين يتم اعتبار المصالح الوطنية الخاصة بإقليم بحد ذاته على حساب مصالح كل الأقاليم الأخرى. كان التطرف اليميني يعني إحياء تلك الأفكار المتطرفة خاصة في الدول التي كانت سبباً بالاقتتال والاحتراب، بالطبع الحديث يدور عن ألمانيا. لم يكن يسمح بصعود اليمين بقوة كبيرة آخذين بعين الاعتبار ان اليسار الألماني لم يكن ذا نزعات اشتراكية ولا شيوعية من أي نوع، بل كان منشغلاً بقضايا ألمانية صرفة. في المقابل فإن اليسار القوي في إيطاليا كان يتم العمل على تمزيقه من أجل أن لا يصل لسدة الحكم، حتى في تلك الأوقات التي يحصل فيها على أغلبية فهو ممزق عاجز عن الوحدة، من هنا سمة السياسة الإيطالية الأساسية القائمة على عدم الاستقرار البرلماني والحكومي في فترات سابقة. اليسار الإيطالي هو الذي خاض الحرب ضد الفاشية وكان حضوره قوياً في مشهد ما بعد الحرب.
ربما من المفيد التذكير كيف تم رسم خارطة المناطق الانتخابية في ألمانيا مثلاً بإشراف أميركي حتى لا يسمح بتكتل يميني قوي في منطقة انتخابية، مثلاً كان يتم شق بعض المناطق وفصل أجزاء منها وضمها لمناطق أخرى بحيث يتم تهشيم أي حضور قوي لليمين، وبالتالي حرمان أي صعود محتمل له. في المقابل في دول أخرى مثلاً فرنسا فإن الجمهورية التي سيصعد لحكمها الديغوليون لن تواجه نفس الأزمة لأن فكرة اليمين واليسار فيها لم تصل لنفس الدرجة من التنافر التي وصلت لها في مناطق أخرى. لكن الحالة الفرنسية شهدت مؤخراً صعوداً حاداً لليمين المتطرف الذي يأتي على أقصى يمين اليمين الفرنسي المعهود والذي يأخذ طابعاً شوفينياً. يبدو الأمر خطراً في مجتمع بات المهاجرون يشكلون نسبة هامة وفاعلة فيه. لكن أيضاً هذا ليس مكمن الخطر الحقيقي. ففرنسا تحديداً التي أعلت من أفكار الحريات والمجتمع المفتوح واللييرالية بعد ثورتها الشهيرة لا يمكن لها أن تتخيل نفسها متطرفة. ثمة شيء في الهوية الفرنسية مضاد لكل ذلك. لذا فإن الصراع يبدو شرساً على الهوية الفرنسية وعلى صورة فرنسا في الخارج.
لنتذكر سوية أن اليمين البريطاني المحافظ هو من نجح في إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو الذي منع بريطانيا من دخول العملة الأوروبية الموحدة من أجل الحفاظ على الجنيه وهيبة المملكة. لذلك فإن الخوف الحقيقي من صعود اليمين الأوروبي هو تفكيك المشروع الوحدوي الأوروبي. ورغم أن التجارب الفرنسية لا تشير لعداء كبير للمشروع الأوروبي إلا أن تجربة اليمين الأوروبي بشكل عام تثير القلق.
رغم كل ذلك فمرة أخرى فإن صعود اليمين في فرنسيا كما في غيرها من البلدان الأوروبية هو قضية داخلية في كل دول أوروبا، ومرتبط أكثر بالسياسات الداخلية والتنافس الحزبي.
عاد قبل يومين حزب العمال لداوننغ ستريت لأول مرة منذ أربعة عشر عاماً بعد أن أطاح بحزب المحافظين. أيضاً الأمر متعلق بالسياسات البريطانية الداخلية وبرؤية المواطن لمن يستطيع أن يقدم له الخدمات أفضل. لا علاقة للأمر بالسياسات الخارجية للحزب. رغم أن ثمة شكوكاً أن الحاجة لتخليص الحزب من قيادته السابقة التي أولت القضية الفلسطينية أهمية كبيرة كان ضرورياً من أجل إعادة موضعة الحزب في مكانه الصحيح ضمن النسق العام للسياسات الخارجية البريطانية. ولكن عودة «العمال» لن يعني مثلاً عودة بريطانيا للمشروع الأوروبي. ما أقترحه أن قصة اليمين واليسار في الديمقراطيات هي قصة داخلية صرفة.