قبل أي حديث عن أيّ صفقة، ستكون الأيام والأسابيع التي ستسبق مثل هذه الصفقة ساخنة جداً في قطاع غزة والضفة الغربية، وفي جنوب لبنان، وفي جبهات أخرى.
وصلت دولة الاحتلال إلى «قناعة» بأنّ الحرب على القطاع لن تجلب لها سوى المزيد من النزف والاستنزاف، وهي لم تتخذ قرار التدرّج نحو ما سمته «المرحلة الثالثة»، إلّا لأنّ هذه القناعة قد ترسّخت في أوساط جيش الاحتلال أوّلاً، وفي أوساط المجتمع الإسرائيلي ثانياً، حيث تقول بعض استطلاعات الرأي إن من يؤيّدون استمرار الحرب باتوا بحدود الـ26% من المجتمع الإسرائيلي، بصرف النظر عن اختلاف زوايا الرؤية لدى ما يساوي الـ74% منه، وبصرف النظر عن أنّ قسماً لا يُستهان به من هؤلاء ربما ليس لديهم موقف حاسم مع أو ضدّ استمرار هذه الحرب الإجرامية، وذلك لأنّ الأمور من الزاوية الإحصائية تعني أنّهم ليسوا مع استمرارها.
وإذا عُدنا إلى بدايات الحرب، وقارنّا نسبة تأييدها التي كانت تفوق الـ90% مع الأرقام الحالية لهذا التأييد فإنّ الاستنتاج الوحيد الممكن هو أنّ المجتمع، وقبله الجيش قد فقد الثقة بـ»الانتصار» الذي تحدّث عنه بنيامين نتنياهو على مدى أكثر من 9 أشهر من هذه الحرب.
الشيء الجديد والأهمّ هنا هو أنّ الاستمرار بالحرب قد فقد «شرعيّته» الجماهيرية، كما فقد «شرعيته» المؤسّساتية، وذلك لأن الجيش هو واحد من أهم، وربما المؤسسة الأهم على الإطلاق في دولة الاحتلال، وهو المؤسسة الحاسمة في تقرير مصيرها، خصوصاً أننا لسنا أمام أي حرب.
وفقد «الشرعية» الجماهيرية للحرب قد لا يكون حاسماً دائماً، خصوصاً أنّ حكومة الاحتلال ما زالت تحظى بشرعية برلمانية، إذ ما زال حوالى 64 عضواً من أعضاء الكنيست متمسّكين بهذه الحكومة. لكن الأمر يصبح مختلفاً عندما تتجنّد هذه الأغلبية الجماهيرية في مواجهة استمرار الحرب، بصرف النظر عن أنّ دوافع هذا التجنّد تعود في قسم كبير منها إلى الإصرار على صفقة تعيد الأسرى قبل فوات الأوان.
ولم يكن ممكناً بالمطلق أن تؤول الأمور إلى هذه الدرجة والحدود لولا عدم الثقة في تاريخ الدولة العبرية منذ تأسيسها.
وعندما تتحدّث أوساط متنفّذة في جيش الاحتلال، وتوصي بإصرار حول ضرورة التوصل إلى صفقة تبادل، و»استثمار» الفرصة المتاحة الآن، وفوراً، وبأيّ ثمن، ربما في ذلك ثمن بقاء حركة حماس في القطاع، بل بقاء دورها، أو دور لها في إدارة القطاع بعد مرحلة وقف إطلاق النار، وعندما تجاهر أوساط هذا الجيش، وتصرّ على احتياجات عاجلة من القوى البشرية، وتطلب تمديد فترة التجنيد الإجباري، فإنّ الأمور تصبح أكثر وضوحاً، وأكثر من أيّ وقت مضى بأنّ الحرب على القطاع بات مستحيلاً ربحها، وأنّ أقصى ما يمكن أن تتحصّل عليه حكومة الاحتلال هو الاكتفاء بـ»إنجازاتها» الوحيدة وهي تدمير القطاع وتحويل الحياة فيه إلى ما يشبه المستحيل المعيشي.
إذا أضفنا إلى كلّ ذلك أنّ قناعات راسخة تتعلّق بالارتباط الوثيق بين توقف الحرب في، وعلى القطاع، وهدوئها على جبهة جنوب لبنان، ثم القناعات التي ترسّخت بأن الحرب على لبنان في ظلّ هذه الأجواء التي تسود في الشارع، وفي أوساط الجيش، واستحالة الذهاب إلى حرب هناك سواء بسبب المخاوف من التدمير والخسائر التي يمكن أن تتكبّدها دولة الاحتلال من قبل «حزب الله» اللبناني نفسه، أو بسبب تمدّد الحرب واتساعها لتصل إلى الحرب الشاملة في الإقليم فإنّ من الواضح تماماً، والمنطقي تماماً أن لا بديل حقيقياً عن صفقة للتبادل ستؤدّي إلى وقف إطلاق نار هو بمثابة هدنة من حيث الشكل، لكنه في واقع الأمر هو وقف حقيقي، وهو مرحلة من مراحل إنهائها، تحت «يافطات» ترفعها حكومة الاحتلال للتغطية على نهايتها دون تحقيق الأهداف التي حدّدتها، ودون أن تمتلك أيّ آفاق حقيقية وواقعية للعودة إليها.
أمام كل هذه الوقائع والمعطيات باتت كل الطرق ممهّدة للذهاب إلى هذا الشكل أو ذاك من نهاية الحرب على جبهة غزّة، وعلى جبهة جنوب لبنان، دون أن يعني ذلك توقفها على الضفة، إن لم نقل استعارها بصورةٍ غير مسبوقة كما أوضحنا في المقال السابق.
ومع ذلك كلّه فإنّ حكومة الاحتلال لن تسلّم بهذه الوقائع والمعطيات، وهي ستعمل على «فركشة» ما يمكن فركشته، وبقدر ما سيُتاح لها من فرص ومخارج، وبقدر ما سيترتّب عليها من خسائر جديدة في المعادلة الداخلية، ومع الولايات المتحدة الأميركية التي تفاقمت أزمتها بصورةٍ دراماتيكية بعد الظهور الباهت للرئيس جو بايدن في المناظرة مع الرئيس السابق دونالد ترامب، وبعد تسارع التوقعات بخسارة السباق مع الحزب الجمهوري، ومع ترامب نفسه.
ليس هذا فقط، فقد بات على «حكومة اليمين الفاشي» أن تحسب، أيضاً، بأنّ «فركشة» الذهاب إلى الصفقة ستعني المزيد من العزلة، والمزيد من التقوقع الخانق في الإقليم، وفي العالم كلّه، وستكون الحرب الدموية التي ترغب في الاستمرار بها هذه الحكومة الفاشية، ولأوّل مرّة في تاريخ الدولة العبرية هي الحرب التي تخوضها وحدها، دون داعم أو شريك، سوى الدعم والشراكة التي تمنع انهيارها، وليس انتصارها على الإطلاق.
أغلقت، وأطبقت الدوائر على «حكومة اليمين الفاشي» من كل الجهات، وأصبح الذهاب إلى منحى استمرار الحرب هو بمثابة انتحار سياسي.
ولكن يبقى السؤال: هل وصلت «الشمشونية» السياسية في دولة الاحتلال إلى هذه الحدود؟ أو هل يمكن أن تكون «الشمشونية» السياسية هي الخيار؟
وهل سيقبل الجيش بسبب «الأغلبية البرلمانية» أن يغامر هذا «اليمين» بمصير الدولة والمجتمع إلى حدود المقامرة، وتعريض هذه الدولة إلى هذا المستوى من الأخطار الوجودية من أجل «بقاء» هذه الحكومة، ومن أجل «بقاء» نتنياهو على رأسها؟
وهل يكون الجيش في هذه الحالة شريكاً في التفريط بمستقبل الدولة والمجتمع أم لا؟
وإذا كانت مهمّة الجيش، أيّ جيشٍ في أيّ بلدٍ من بلاد هذا العالم هي الحفاظ على الأمن القومي لأيّ دولة، فكيف للجيش في دولة مثل دولة الاحتلال أن يرى كلّ هذه الوقائع والمعطيات، وأن يدرك عن معرفة كافية، وعن دراية مبنية على المعلومات الدقيقة والتفصيلية ثم يتنحّى جانباً تحت مبرّر تابعية الجيش للمستوى السياسي؟
وهذا السبب بالذات، أو هذا الواقع بالذات هو أحد الدوافع الكبيرة للانسداد الذي وصلت له الحالة الإسرائيلية.
الهوامش الوحيدة التي باتت أمام رئيس حكومة الاحتلال هي المراهنة على تعنّت «حماس»، وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع، أو المراهنة على «تسرّع» «حزب الله» في جولات الحرب على جبهة جنوب لبنان، أو المراهنة على تحقيق صورة «نصر» طال انتظارها وما زال يلهث خلفها.
يبدو أنّ المقاومة في القطاع قد قطعت عليه الطريق في المرونة الأخيرة التي أبدتها في الأيام القليلة الماضية، كما يبدو أنّ «حزب الله» قد أغلق على نتنياهو كلّ الأبواب حين كان يردّ الصاع صاعين على كلّ عملية اغتيال، أو تجاوز للقواعد الاشتباكية، قديمها وجديدها، وحين أغلق الباب، وبصورةٍ موصدة على كلّ محاولات «فصل» الحرب في جنوب لبنان عن الحرب في، وعلى قطاع غزّة.
فماذا تبقّى لـ»حكومة اليمين الفاشي» في إسرائيل؟
تسخين الجبهات، ومحاولة إبداء صورة القادر المقتدر، والإمعان في القتل والتقتيل، والتهديد بالأسلحة غير التقليدية، والقيام بعمليات استعراضية فيها صورة من «الردع» والتصميم على استخدام أعلى درجات من الإبادة والتطهير العرقي، وعلى درجات غير مسبوقة من الظهور بمظهر من لا يكترث بأيّ شيءٍ في كل هذا العالم سوى «الإصرار» على الوصول إلى صورة من «القوّة والبأس» والسّحق الذي يعيد للمجتمع الإسرائيلي صورة الجيش «البطل»، وصورة الجيش الذي سينتصر، والجيش الذي لا يتراجع إلّا ليعاود الهجوم.
في الأيّام القادمة، وربما الأسابيع القادمة ينتظر المنطقة تصعيد كبير، وأسلحة جديدة، وصخب إعلامي وسياسي أكبر بهدف تأمين ما يكفي من الدخان لإخفاء ما وصلت إليه دولة الاحتلال من اختناق.