لم يتفقوا حتى الآن علماء النفس على تعريف للملل؛ ولكنهم يدركون الآن أن هناك خمسة أنواع على الأقل منه، منها "الملل القياسي"، حين يشرّد ذِهنك وتشعرين أنكِ لا تجدي شيئًا تفعلينه، و"الملل التفاعلي"، حين يتملكّك الغضب من الشخص الذي أرغمكِ على أداء هذه المهمة المُملة، كالمدرس أو المدير في بيئة العمل، وتُفكري في الأشياء التي كان يُمكن أن تفعليها في المقابل.
هناك أيضًا "ملل البحث"، حين تكونين مضطربة ومتململة وتبحثين عن أشياء تفعلينها للتخلص من الملل، و"ملل اللامبالاة"، حين تشعرين بالراحة وتنفصلين عن العالم من حولك، واكتشف مؤخرًا "ملل عدم الإكتراث"، حين تشعرين أنكِ لستِ منزعجة ولا سعيدة، لكنكِ عاجزة عن التخلص من هذا الملل.
لذا دعينا نستعرض بعض الدراسات التي تناولت تفسيرات متنوعة لحالة الملل التي قد تُعيق نجاحاتك وتحقيق أهدافك؛ فضلًا عن ذلك سنقدم لكِ أهم الإرشادات للتغلب عليه :
تأثير الملل على الدماغ
وفي هذا الشأن، أجرى باحثون دراسات عن تأثير الملل على الدماغ؛ إذ قاد دانكيرت ليبديف دراسة استخدم فيها الباحثون التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي لمراقبة أدمغة المشاركين أثناء مشاهدة مقطع فيديو شديد الملل عن رجلين ينشران ملابسهما، ويسألان بعضهما بين الحين والآخر عن مشابك الملابس.
لاحظ الباحثون وجود صلة بين الملل وبين نشاط "شبكة الوضع الافتراضي"، وهي مجموعة من المناطق من الدماغ ترتبط عادة بشرود الذهن.
"إن هذه الشبكة تنشط عادةً في حالة عدم وجود مهام تؤديها أو عندما لا يوجد شيء يحدث من حولك؛ كما إنها إشارات ورسالة من الدماغ مُفادها أنك لا تتفاعل مع العالم من حولك، أي أنك فقدت السيطرة على البيئة المحيطة بكِ، وأنك غير مؤثرة".
ولهذا يستطيع بعض الناس البقاء بمفردهم لسنوات، بينما لا يتردد آخرون في صعق أنفسهم بعد 15 دقيقة فقط من العزلة. ففي الوقت الذي يستسلم فيه البعض لمشاعر الضجر والملل، تدفع هذه المشاعر آخرين للبحث عن طرق لتسلية أنفسهم وممارسة أنشطة هادفة.
الملل لا يُصيب إلا الناس المُملة
وعلى النقيض من ليبديف، لم يهدر رائد الفضاء الكندي كريس هادفيلد، لحظة واحدة في بعثته الفضائية عام 2012 إلى محطة الفضاء الدولية، رغم المهام الرتيبة وقلة فرص مخالطة الآخرين. وأعلن هادفيلد أكثر من مرة أن "الملل لا يصيب إلا الناس المُملة". واستفاد هادفيلد من وقت فراغه لأداء أغنية للمغني ديفيد بوي من الفضاء.
"إذا تحدثت إليه، ستدرك أنه يتلقى إشارة الملل، لكنه يتعامل معها بسرعة وبكفاءة فائقة".
واستطاع هادفيلد في الفضاء أن يجد متعة في تأدية المهام التي اشتهرت بأنها تبعث على الضجر، مثل أعمال السباكة. ويحكي أنه عندما كان طفلًا يساعد أبويه في المزرعة بأونتاريو، كان دائما ما ينجح في الوصول إلى حيلة لشغل نفسه، حتى عند أداء المهام الأكثر رتابة مثل تمهيد التربة.
وربما لو سرنا على درب هادفيلد، لأصبحت المهام المملة ذات مزايا مدهشة. فقد أثبتت دراسات أن شرود الذهن أثناء أداء المهام الرتيبة قد يحفز الإبداع.
عيوب الملل
إن بعض الدراسات ربطت ما بين سرعة الضجر والشعور بالضيق، وبين السلوكات القهرية، وإدمان المخدرات، وإدمان القمار، والاستخدام القهري للهاتف المحمول، والاكتئاب، والصدمة النفسية التي تظهر في صورة أعراض بدنية، مثل الألم.
والغريب أن سرعة الضجر ارتبطت أيضًا بعدة اضطرابات شخصية، منها النرجسية، لكن ليس النرجسية المُعتادة التي يتسم بها بعض الساسة، وإنما "النرجسية الخفية"، التي تنطوي على شعور المرء بأنه موهوب للغاية، لكنه لا يحصل على التقدير الذي يستحقه.
ولا أحد يعرف بعد سبب العلاقة بين الإثنين، لكن بعض الباحثين يرى أن اتساع الفجوة بين الأهداف وبين القدرات الطبيعية يُعد أحد أهم أسباب الفشل؛ وعندما يتحقق المرء من عجزه عن تحقيق أهدافه، يسيطر عليه الملل.
في حين يرى آخرون أن أصحاب النرجسية الخفية عندما يحصلون على الثناء الذي يلهثون وراءه، يفقدون الهمة ويشعرون بالملل.
وعلى عكس النرجسية الواضحة التي يشعر أصحابها بالسعادة ويبالغون في تقدير ذواتهم، فإن النرجسية المُستتّرة تُسبب مشاكل نفسية.
الملل وسمات شخصية أخرى
ربطت دراسات بين الملل وبين سمات شخصية أخرى، مثل سرعة الغضب والعصابية، والميل إلى القلق، والشعور بالذنب، والغيرة. وفي كل الأحوال، فإنه مؤشر سيئ، وقد يكون ناتجًا عن عدم القدرة على التحكم في المشاعر.
" إننا نحاول أن نفهم طبيعة العلاقة بين الملل وبين هذه الاضطرابات الشخصية والمشاكل النفسية، مثل الاكتئاب، فليس من الواضح ما إن كان الملل يورث الاكتئاب أم أنه يعد من العوامل التي تُنذر بالإصابة بالاكتئاب.
لكن السؤال الأهم الذي يحاول دانكيرت الإجابة عليه هو ما إن كانت القابلية للإصابة بالملل تكتسب من البيئة أم إنها تنتقل بالوراثة؟
الشعور بالملل، كشأن جميع المشاعر، هو مُحصلة لعوامل مكتسبة ووراثية. فيبدو أن هادفيلد طور قدراته على التعامل مع الملل حتى أتقنه، وربما يتمكن أضيق الناس صدرًا وخلقًا من الاستمتاع بالعزلة، وشغل وقت الفراغ في أعمال هادفة، لو استخدموا الأساليب الصحيحة.
ولهذا إذا لاحظتِ أنكِ تشتكي من الحياة الرتيبة والمُملة، فكري في مدى اختلاف تجربة ليبديف عن تجربة هادفيلد في الفضاء، وستدركين حينها أن العبرة برؤيتك الخاصة للأمور.
الملل شعور سلبي يُمكنك تجاوزه بهذه الخطوات
ربما يكون الشعور بالملل وفقدان المعنى إشارة إلى أننا لا نتشارك مع العالم المحيط بنا بالشكل المناسب، وأحيانا تكون تلك المشاعر صوتا يخبرنا أن نجرب ما نفعله لكن بشكل أفضل، أو نجرب أشياء جديدة تمامًا.
و يُمكن للملل أن يجتاحنا حتى مع الوظيفة الجيدة، أو الأنشطة الهادفة، التي ربما نشعر أنها أسهل أو أصعب مما نعتقد. عمومًا قد يلجأ بعض الناس أحيانًا للأنشطة التي تجعلهم يشعرون بتحسن لحظي، لكنها لا توفر معنى أو تحدّيًا على المدى الطويل، مثل "مشاهدة التلفاز أو التهام الوجبات الخفيفة، أو حتى النوم للهروب من تلك المشاعر".
بناءً على ذلك يُمكنك الاستعانة ببعض الخطوات التي قد تُساعدك على تجاوز الشعور بالملل، وذلك على النحو التالي:
-
السكوت المُمتع
بالتأكيد الجلوس بهدوء والاسترخاء سمّة باتت بعيدة المنّال بسبب الرغبة المستمرة في التحفيز الحسي للترفيه أو العمل. لذا استغلي أوقات يومية حتى ولو لمدة 15 دقيقة للممارسة السكوت والصمت عن كل ما حولك لتهدئة العمل واستعادة نشاطه الإيجابي في التعامل مع مجريات الأمور بدون ملل.
-
التركيز الإيجابي والهادّف
ابدأي في تنفيذ المشاريع المؤجلة، سواء كانت مشاريع إبداعية، أو عملية أو مشاريع قراءة، أو ممارسة الرياضة، أو حتى تجديد المنزل، وتغيير أماكن الأثاث؛ كذلك يُعتبر أيضًا ترتيب الغرف والمكتبات، وخزانات الملابس، وإعادة فرز محتويات الحاسوب، فجميعها أفعال قد تجعلك قادرة على تجاوزه وتطوير ذاتك بخطوات إيجابية وملموسة.
-
الابتعاد عن الفوضى
يساعد الروتين على تنظيم الأيام، وتوفير إحساس بالتماسك والأمان الذي يُعزز معنى الحياة. وبما أن الملل قد يظهر بسبب الفوضى وعد التنظيم الوقت، أو ترك العمل أو مع أي تغير في روتين الحياة، لذا عليكِ تنظيم وقتك وإيجاد روتين يومي حتى لو كان بسيطًا.
-
التخطيط لصنّع هدف ملموس
بدلًا من انشغالك من دون هدف، عليكِ ترتيب أولوياتك عن طريق تقسيم المشاريع الكبيرة إلى مشاريع أصغر، الأمر الذي يبقيكِ منتجة؛ لأن الملل غالبًا ما يخفي مشكلة، حيث تريد القيام بنشاط معين، ولكن هناك شيئًا ما يمنعك. لذا اكتشفي ما تريدين القيام به فعلًا، عن طريق طرح الأسئلة على نفسك، مع الإجابة بصدق.
نصائح ذهبية للتخلص من الملل
إليك بعض النصائح الهامة والتي قد تُساهم في تغيير حياتك للأفضل والقضاء على الملل نهائيًا، وذلك على النحو التالي:
- ضعي رؤية لحياتك، وحددي كيف يساهم كل ما تفعلينه في تعزيزها، أو الانتقاص منها؛ إذ ربما تكون الأشياء التي لا تتوافق مع رؤيتك هي نفسها الأشياء التي تسبب لكِ الضجر.
- حوّلي الأعمال الروتينية المُملة إلى فرص للتعلم، مثل الاستماع إلى كتاب صوتي أو محاضرة أثناء القيادة أو الأنشطة اليومية.
- حددي وقتًا معينًا للأنشطة التي تشعري حيالها بالملل، مثل الرد على الرسائل أو البريد الإلكتروني، بدلًا من السماح لها بالتسبب في انقطاعات مستمرة خلال اليوم.
- ركزي على الأهداف البعيدة التي تحسن جودة حياتك بشكل كامل، إلى جانب العمل الذي يوفر الدخل المادي.
وأخيرًا، لا يُمكن التخلص من الملل بطرق خارجية فقط، ولا يقتصر الأمر على ما نفعله، ولكنه يتعلق أيضًا بكيفية فعله؛ إذ يجب أن يكون لكل منا عالمه الداخلي، الذي يمكّن فيه العثور على ما يفضله، والخروج بأفكار جديدة، أو الحوار مع الذات، والتخطيط للمستقبل.
لذا يُمكن استخدام لحظات الملل لاستكشاف الاحتمالات المختلفة داخل العقل، مع فك القيود قليلًا، والقبول عندما تصبح المقاومة غير مجدية.