منذ إعلان نتنياهو حرب الإبادة على قطاع غزة، التي حصدت ما يزيد على المئة وعشرين ألفاً بين شهيد وجريح، وأتت على كل عناصر الحياة فيه، كان من الواضح أن نتنياهو لا يريد لهذه الحرب أن تنتهي .
وقد أحسنت قوى المقاومة صنعاً عندما أعلنت في السادس من مايو الماضي موافقتها على مقترح الوسطاء، الذي رفضه نتنياهو باستعجال اجتياح مدينة رفح، والسيطرة على معبرها الحدودي مع مصر، وتدريجياً إطباق سيطرته الكاملة على محور فيلادلفيا، في محاولة منه لفرض وقائع جديدة أدت إلى إغلاق المعبر حتى اليوم، وتوقف دخول المساعدات الإغاثية من خلاله، وإعادة تشريد ونزوح ما يقارب المليون نازح ممن سبق وأن لجأوا إلى بيوتها وخيامها بحثاً عن الحياة.
بعد إعلان بايدن عما بات يعرف بـ "مبادرة بايدن" لوقف إطلاق النار، وأخذ الاقتراح إلى مجلس الأمن، سارعت حماس إلى الترحيب بالقرار شبه الإجماعي طالما أنه يتضمن العناصر الأساسية لمطالب الشعب الفلسطيني ومقاومته الشجاعة، والمتمثلة بالوقف التام للحرب، والانسحاب الإسرائيلي الشامل من قطاع غزة، والتوصل لصفقة جادة لتبادل الأسرى، وضمان تدفق مساعدات الإغاثة والإيواء، وصولاً إلى إعادة الإعمار، والذي هو في الواقع بناء قطاع غزة الجديد بعد أن دمره جيش الاحتلال عن بكرة أبيه.
نتنياهو ظل صامتاً، منتظراً فرصةٍ تمكنه من تخريب الاتفاق ومواصلة الحرب، بما يتناقض وما ورد في قرار مجلس الأمن الذي نص على استمرار وقف إطلاق النار طالما استمر التفاوض على عناصر تنفيذ المرحلة الثانية، الأمر الذي قبلت به حماس، مبدية بذلك مرونة تؤكد حرصها على وقف حرب الإبادة التي يواجهها شعبنا في القطاع، رغم ما أظهرته قوى المقاومة من قدرة على مواجهة الحرب وإيذاء القوات الغازية، كما حدث في أكثر من موقعة من شمال القطاع إلى جنوبه، حيث أدرك جيش الاحتلال خلالها قدرة المقاومة على إعادة بناء قواتها، باعتراف صريح من قادة هذا الجيش .
بعكس المعارضة التي التحق بها غانتس، ومعهم معظم قادة جيش الاحتلال، وفقاً لما نشرته "نيويورك تايمز"، ظل نتنياهو وزمرة حكومته الفاشية وحيداً في موقفه المراوغ إزاء صفقة التبادل وضرورة وقف الحرب، التي من وجهة نظرهم استنفذت أغراضها، وفشلت في تحقيق أيٍ من أهدافها المعلنة، باستثناء ما خلفته من إبادة جماعية، مرغت أنف إسرائيل في وحل غير مسبوق لدى الرأي العام الدولي، ومحكمتي العدل والجنائية الدوليتين، وجعلت منها دولة منبوذة .
في ظل هذا الفشل الإسرائيلي رغم كل الدعم الغربي، والذي أيضاً بدأ تدريجياً بالانحسار لجهة ضرورة وقف الحرب، والتي أيضاً بدأت تلطخ مكانة واشنطن وعواصم الغرب، واصلت حماس مرونتها التكتيكية لتجاوز العقدة التفاوضية دون الإخلال بالعناصر الأساسية لمتطلبات وقف الحرب والانسحاب والتبادل والإغاثة والإعمار، حيث أطبقت بتلك المرونة مرة أخرى الخناق على نوايا نتنياهو لاستمرار حرب الإبادة، ليس لضمان الأمن أو استعادة الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة، بل لإنقاذ مستقبله الشخصي، الأمر الذي عرّى لعبته لتبديد الصفقة، وفقاً لوجهة نظر الأغلبية المتزايدة في المجتمع الإسرائيلي، والتي لم تتوقف عن التظاهر لإتمامها ومنع نتنياهو من إضاعتها. هنا تأتي مسؤوليتنا الوطنية لتعميق مأزق نتنياهو ومخططاته التوسعية لإلغاء فلسطين وشعبها، الأمر الذي يفرض على الكل الوطني الرضوخ للإرادة الشعبية باستنهاض كل الطاقات في بوتقة وحدة وطنية شاملة من كل الوطنيين، دون رهانات ثبت عقمها منذ سنوات.
معاناة تفوق احتمال البشر
وعلى الجانب الآخر، حيث معاناة أهل غزة التي بلغت ذروة لا تطاق، وافتقار القطاع لأيٍ من عناصر الحياة جراء حرب الإبادة المستمرة، لا يمكن لوم الناس على صراخها من شدة الألم، فهذا ليس سوى دليل إضافي على إنسانيتها وتشبثها بحياة كريمة. وهي تدرك أن ذلك يتحقق بوقف الحرب، ولكنه يتطلب قبل ذلك وبعده وفي كل الأحوال توافقاً وطنياً يحمي تضحياتها، ويعيد لها الأمل في تمهيد الطريق لوحدة الكيانية الوطنية ومؤسساتها الجامعة، فشعبنا بخبرته الطويلة وحسه الوطني والإنساني الذي لا يُخطئ، يدرك تماماً بأن هذا هو الخيار الوطني الوحيد القادر ليس فقط على إعمار غزة، بل وإعمار الحركة الوطنية، واستعادة دورها المنتظر في اسقاط مخططات التهجير، وسيناريوهات الوصاية والانفصالية التي تشكل محور أيديولوجية نتنياهو وزمرته الفاشية، لقطع الطريق على دفع تحولات الرأي العام الدولي نحو حتمية إنهاء الاحتلال، وتمكين شعبنا الفلسطيني من تقرير مصيره والعيش بحرية وكرامة في دولته المستقلة وعاصمتها القدس على حدود عام 1967، وكافة حقوقه الوطنية الأخرى، كما عرفتها الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، وبما يشمل حق العودة وفقاً للقرار 194، وما يتطلبه ذلك من عودة غزة مرة أخرى في قلب الكيانية الوطنية ورافعة لمؤسساتها الجامعة.
نعم، رغم كل التحديات والتضحيات، هناك فرصة من المحظور وطنياً السماح في تبديدها. واذا استمرت سياسة إدارة الظهر لإرادة وتطلعات الأغلبية الشعبية الساحقة في الوحدة والتوافق، فالمسؤولية الوطنية تقتضي توحيد جهود كل الوطنيين ومبادراتهم لإجبار المهيمنين على القرار الوطني بالعودة عن رهاناتهم الخائبة، ومصالحهم الفئوية الضيقة التي طالما ألحقت أبلغ الأضرار بقضيتنا، وتكاد تطيح مصيرنا الوطني برمته .
واصلت حماس مرونتها التكتيكية لتجاوز العقدة التفاوضية دون الإخلال بالعناصر الأساسية لمتطلبات وقف الحرب والانسحاب والتبادل والإغاثة والإعمار، حيث أطبقت بتلك المرونة مرة أخرى الخناق على نوايا نتنياهو.