بعد نحو شهر ونصف، عاد الناطق الرسمي باسم كتائب القسام للظهور في كلمة متلفزة، هي الرقم 22 منذ السابع من أكتوبر الماضي، وإضافة لما تضمنته من مواقف، فإن التوقيت الذي ظهر فيه «أبو عبيدة» يعتبر مهماً للغاية، وينطوي على دلالة بالغة الأهمية، فالكلمة قد جاءت عشية الإعلان الإسرائيلي الرسمي عن الانتقال بحرب الإبادة لما يسمونه المرحلة الثالثة، التي تعني الانتهاء من الحرب البرية المكثفة والكاسحة، بآخر محطاتها في رفح، والتي انطلقت منذ شهرين، كذلك جاءت كلمة أبو عبيدة في ظل عودة التفاوض على صفقة التبادل، والتي تعتبر فرصة أخيرة، يصفها الإسرائيليون بالفرصة الذهبية.
نقول إن مجرد ظهور أبو عبيدة يؤكد عبث حرب الإبادة الإسرائيلية، وقد دخلت شهرها العاشر، فقد تحدث أبو عبيدة بمناسبة مرور تسعة أشهر كاملة على الحرب، حيث لم يعتقد أحد بأن حماس وكتائبها يمكنها أن تصمد تسعة أسابيع، في وجه واحد من أقوى الجيوش في العالم، وفي ظل حرب استخدم فيها الجيش الإسرائيلي ما يعادل عدة قنابل نووية، ولم يتورع عن تدمير المستشفيات والمدارس والأبراج، بما اشتمل على قتل المئات من المدنيين يومياً، والحصيلة كانت سقوط نحو 40 ألف شهيد مع نحو عشرة آلاف مفقود، في عداد الشهداء، كذلك ما يقارب المئة ألف جريح، والتدمير الكامل - تقريباً - لكل معالم الحياة في قطاع غزة، أي أنه حتى مع حجة جيش إسرائيل، استخدام حماس للمرافق والمباني المدنية كدروع بشرية، أي أنها تقيم أنفاقها تحت تلك المرافق، فإن حجم القتل والتدمير لا بد أن يكون قد قضى على معظم قوة حماس العسكرية.
الحقيقة الميدانية تشير إلى أن الفشل الإسرائيلي لم يقتصر على ذلك الفشل الاستخباري الذي وقع يوم السابع من أكتوبر، بل إن إسرائيل وهي جمعت الدعم الغربي إلى جبروتها العسكري، بدافع تفهم ما أصابها يوم السابع من أكتوبر، اندفعت لتحقق أهدافاً عسكرية وسياسية، تردد نتنياهو في الإفصاح عنها، ليس لأنه كان ينوي أن يحقق ما هو أقل منها، بل ما هو أبعد، وقد كانت تصريحات ومواقف وزراء التطرف ونواب الفاشية تفصح عنه، من أهداف تشمل تهجير كل سكان القطاع، وتسوية القطاع بالأرض، وقد أظهر بتسلئيل سموتريتش على سبيل المثال، قدراً من «التواضع» حين قال إن إسرائيل يمكنها أن تحتمل وجود مئة إلى مائتي ألف مواطن فلسطيني في قطاع غزة، أي ما يقارب الـ 5 - 10% من سكانه الحاليين، وسارع قادة مؤسسات وشركات الاستيطان إلى إعداد «المناقصات» لإعادة استيطان «غوش قطيف» و»نتساريم»، وبدؤوا يحلمون بشاطئ غزة وحتى بغازها.
وبعد وقت بدأ نتنياهو وتحت إلحاح أميركي يفصح عن أهدافه العسكرية، ويرفض الإفصاح عن الهدف السياسي، بل الحديث عن اليوم التالي لوقف الحرب، وحدد أهدافه بالقضاء على الوجود العسكري لحماس وعلى نظام حكمها في غزة، وإعادة المحتجزين، ثم ضمان عدم تهديد غزة لمستوطنات الغلاف، عبر وجود عسكري إسرائيلي لسنوات، ولكن النتيجة حتى الآن تؤكد بشكل قاطع تحقق الفشل العسكري الإسرائيلي التام.
لم تنجح إسرائيل خلال 9 شهور من حرب الإبادة، سوى بتحرير أربعة أو خمسة محتجزين من أصل 120، أي أقل من 4%، وهذه نتيجة متواضعة جداً، بالنظر إلى حجم التدمير والقتل، ومدة الحرب، وحجم الدعم العسكري والاستخباراتي الأميركي والبريطاني، في مواجهة غزة محدودة المساحة وبسيطة الجغرافيا، وفي مواجهة أعداد من المقاتلين نسبتهم أقل من ربع عدد أفراد الجيش الإسرائيلي الذي زج به إلى قطاع غزة، ناهيك عن فارق العتاد والعدة، أما الهدف الثاني وهو القضاء على قدرة حماس العسكرية، فإن إسرائيل قامت خلال المرحلة الأولى التي استمرت أقل من شهر، بالاقتصار على القصف الجوي والمدفعي، وجاءت المرحلة الثانية وهي الاجتياح البري، الذي مر بدوره بعدة مراحل اجتاحت خلالها الشمال، بيت حانون وبيت لاهيا، ثم جباليا فغزة، فالوسط، ثم خان يونس، وأخيراً رفح، وبالتالي اعتبرت أنها قد فككت كتائب حماس الأربع والعشرين، لكن كانت تضطر للعودة إلى جباليا أكثر من مرة وإلى حارة الزيتون فالشجاعية، أما في رفح فقد واجهت مقاومة عاتية.
أي أن المقاومة بدورها تحولت إلى حرب العصابات، وفرضت على الوجود الاحتلالي العسكري الإسرائيلي حرب استنزاف، صحيح لم يتوقف القتل والتدمير الإسرائيلي حتى اليوم، رغم هبوط حالة التنديد العالمي، خاصة بعد إقدام إسرائيل على اجتياح رفح منذ الأسبوع الأول من أيار الماضي، بعد أن كان العالم كله يحذر من تلك الخطوة، المهم هنا يمكن القول بكل ثقة إن إسرائيل قد حققت فشلاً ذريعاً فيما يخص هدفها الخاص بتدمير القدرة العسكرية لحماس، لدرجة أن إسرائيل وطوال 9 أشهر لم تنجح في اصطياد أحد من قادة الصف الأول، ولا حتى الثاني من القادة العسكريين ولا حتى السياسيين للقسام وحماس، وإذا كان الجيش وهو أصدق من بنيامين نتنياهو لأنه هو المحترف عسكرياً، فهو يقول إنه يحتاج إلى سنوات لتدمير قدرات حماس العسكرية، وهذا أمر مستحيل مع جيش يعلن بنفسه أنه مرهق وبحاجة إلى الراحة، بل وإلى القوات الإضافية، بما لا يقل عن عشرة آلاف جندي من الاحتياط.
لا التهجير ولا «تحرير المحتجزين» ولا تدمير قدرة حماس العسكرية، ولا أي هدف من هذه الأهداف حققه جيش مدجج بالسلاح، قام بمسح الأرض وقتل وتدمير كل ما هو فوقها، وحتى ما هو تحتها، بحجة تدمير الأنفاق، وبعد ارتكاب حرب الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، دفعت إسرائيل أثماناً باهظة، يمكن القول بكل بساطة وباختصار، إنها تدفع إسرائيل إلى مواجهة انسداد الأفق، وإنها تسير على طريق مسدود، هو طريق الاحتفاظ بأرض دولة فلسطين المحتلة، ونتائج هذه الحرب على إسرائيل تكاد تكون كارثية، وذلك بعد أن لم تكتفِ إسرائيل بالتنكر للحق الفلسطيني في العيش في دولته المستقلة، وعلى أرضه المحررة من الاحتلال، بل ظنت أن الوقت قد حان لتنفيذ أكبر وأسوأ عملية تطهير عرقي وتهجير جماعي.
لكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر، فإسرائيل واجهت هذه المرة الشعب الفلسطيني، الذي ظنت أنها قد تخلصت من عبء مقاومته العام 1982، فانفجرت في وجهها انتفاضته الشعبية العام 1987، ثم ظنت بعد ثلاثة عقود، أنها قد كبلته بسلطة الحكم الذاتي التي كانت ثمرة تلك الانتفاضة، خاصة بعد أن فرضت على تلك السلطة الانقسام الداخلي، ونتائج مواجهة العام 2000، وبعد أن كانت حروب الأعوام 48، 56، 67، مع الجيوش العربية، ثم مع المقاومة الفلسطينية في الخارج، ومن ثم تحولت الحرب الإسرائيلية إلى ميدان المواجهة الأول، ولكن بشكل سلمي خلال الانتفاضة، ها هي تخوض أطول وأسوأ حرب في تاريخها، ومع الشعب الفلسطيني وليس مع الدول العربية.
وبعد 9 أشهر، تطورت المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، والتي ستقف دون شك في طريق خطة سموتريتش الخاصة بالضم الفعلي للضفة الغربية، والتراجع حتى عن فكرة الحكم المحلي الذاتي التي قال بها مناحيم بيغين منذ كامب ديفيد 78، مروراً باتفاقيات أوسلو التي أقرت بذلك الحكم ونفذت ما أنتجه كحلّ مؤقت، قبل التوصل للحل النهائي، واليوم إضافة إلى رئيسي الحكومتين السابقتين إيهود باراك وإيهود أولمرت اللذين يؤكدان هزيمة إسرائيل استراتيجياً، فإن رئيس الحكومة السابق زعيم المعاضة يقول إن إسرائيل التي تعتمد على قوة الاحتياط لا تناسبها الحروب الطويلة، أما صحيفة «معاريف» فقالت إن إسرائيل ما زالت تخوض حروباً متواصلة مع الفلسطينيين منذ العام 2002، وقالت إن الحيرة تنتاب إسرائيل حين يدور السؤال حول اليوم التالي حيث لا يريد نتنياهو السلطة في غزة، وقالت إن أفضل وصف لحالة إسرائيل هو «الطريق المسدود».
بات واضحاً أن هذه الحرب لم تكن مجرد جولة من المواجهة الدامية كما كان الحال خلال مواجهات 2008/2009، 2012، 2014، بل كانت هذه حرباً حقيقية، استخدمت فيها إسرائيل كل قوتها مدعومة بإسناد أميركي غير عادي، عسكري وأمني استخباراتي، وفي نهاية الأمر، لم يحقق المعتدون التهجير، ولا رفع الراية البيضاء، بل تحولت غزة والضفة إلى حركة تحرر ومقاومة مثل فيتنام والجزائر، مع تأييد عالمي، وتنديد عالمي غير مسبوق بإسرائيل، أعادها إلى دائرة الدولة المنبوذة التي كانت عليها عشية إعلان قيامها، فلم يعد أمامها من خيار، سوى أن تنسحب من أرض دولة فلسطين، وأن تعيش داخل حدودها تحترم جيرانها، وتتوافق معهم.
تحدد دور الأسد.. تفاصيل خارطة طريق متداولة للحل في سوريا
07 ديسمبر 2024