ملاحظات على هامش محاولة اغتيال ترامب

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم : عبد المجيد سويلم

 

بكثيرٍ من الحظّ سقطت محاولة اغتيال المرشّح، والرئيس السابق دونالد ترامب عليه كهديّة من السماء.
فمن حيث المحاولة فهي محاولة جدّية وحقيقية، وليس فيها كما بدت عليه الأمور التي تم بثها على الهواء مباشرة أيّ لبسٍ أو مسرحة. 
وقد قامت قوات الحماية السرّية بقتل المشتبه به، وشوهد ترامب والدماء تسيل على وجهه، والإصابة كان يمكن أن تكون قاتلة في المكان مباشرة، وهناك جرحى وقتلى، والمسألة بعيدة كل البعد عن شبهات "التمثيل"، والمحاولة مكتملة القصدية والاستهداف.
ولكنها محاولة ملغومة مع كل ذلك، لأنّ المشتبه به سجّل على القوائم الانتخابية للحزب الجمهوري كما تقول الأنباء، ما "يُبعد" شبهة أن يكون لأيّ جهة رسمية في الحزب الديمقراطي، أو غيره علاقة بهذه المحاولة، على الأقل حتى الآن، ما يوحي بأنّ الدوافع لمحاولة الاغتيال هي "خلط" الأوراق بصورة مقصودة، سواء بالنسبة للمعركة الانتخابية، أو بالنسبة "للمراهنات" على نتائجها.
أقصد أنّ إرباك الحالة الانتخابية، وتشتيت الانتباه عن بعض أوراقها يبدوان حاضرين بقوة في هذه المحاولة.
فهذه الجريمة ــ وهي جريمة من الزاوية القانونية ــ وهي، أيضاً، جريمة من الناحية السياسية بالاعتبارات "الديمقراطية" العامة في بلدٍ كالولايات المتحدة، وهي مؤشّر قد لا يكون عارضاً على مستوى التوتّرات في المجتمع الأميركي.. هذه الجريمة ــ إذا صحّت فرضية أنّ مرتكبها هو من أوساط الحزب الجمهوري تعني أنّ ارتكابها قد جاء على خلفية مصالح متضاربة داخل الحزب الجمهوري، وأنّ الجناح الذي يريد التخلّص من ترامب، له مصلحة مباشرة فيها.
هذا الأمر يبدو أكبر وأوضح من مجرّد إيحاء.
فهل جاءت هذه المحاولة قبل انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري لكي "تريح" المؤتمر من هذه الدوّامة، وتنهي النقاش، وتقطع الطريق على "الترامبية" في صفوف الحزب، أو تحوّلها إلى تيّار دون زعامة قادرة على الاستمرار في التنافس والمزاحمة على انتخابات الرئاسة؟
والمحاولة ملغومة لأنّ التحقيقات لن تصل إلى نتائج لا بسهولة، ولا بسرعة، وقد تحتاج الأمور إلى شهور طويلة، ما يعني أنّ الذين يقفون خلف المحاولة كانوا يعرفون أنّ "النجاح" في الاغتيال يستوفي أو سيستوفي متطلّبات حسم الصراع على زعامة الحزب، وعلى مرشّح الحزب للانتخابات الرئاسية.
لكنّ الأمور، وكذلك التحقيقات لن تقف عند هذا الحدّ، وهي لن تقف عنده أبداً.
فإذا عدنا للسؤال المعمول به في علم الجريمة، والذي يشكّل مفتاحاً في أيّ تحقيق يبدأ كما نعرف جميعاً بطرح معروف، أيضاً، وهو من المستفيد، أو من له مصلحة مباشرة في هذه الجريمة؟
هنا سيتّسع "بيكار" (فرجار) البحث ليطال الحزب الديمقراطي، سواء علمت الأوساط الرسمية في الحزب أم لم تعلم، وسواء أرادت أو لم ترد، وحتى سواء لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة، بكلّ خلفيات هذه الجريمة. ومن الطبيعي أن تتجه أنظار التحقيقات نحو هذا المنحى بالذات.
فكما نعرف فإنّ جو بايدن يعاني من مشكلات ذهانية لم يعد بالإمكان التستّر عليها، كما فعل أو حاول البيت الأبيض حتى الآن. 
وبتنا نعرف الآن أنّ أحداً من "علية القوم" في الحزب لم يعد قادراً، وبصورةٍ مباشرة على الدفاع عن بقاء بايدن في سباق الرئاسة الأميركية، بمن فيهم أقرب المقرّبين منه، وتكاد غالبية القيادات في "الديمقراطي" إمّا أن تطالب بالتنحّي والانسحاب، أو أنها باتت تشكّ بصورةٍ خاصة في قدرة بايدن على المنافسة الجدّية، وبالتالي فإنّها تتحفّظ على التعبير المباشر لتأييد الرئيس، ما يعني أنّ التحقيقات لا بدّ أنها ستبحث عن الجهة غير الرسمية ــ على الأغلب ــ التي يمكن أن تكون ضالعة في محاولة اغتيال الرئيس السابق ترامب، والمرشّح المؤكّد لـ"الجمهوري" مقابل بايدن، بكلّ ما يبدو عليه من ضعف، ومن قلّة تركيز، ومن التشتّت الذهاني، والذي بات يزعج غالبية قيادات وكوادر "الديمقراطي" وكل مؤسّساته الكبيرة، ويشكّل إحراجاً سياسياً كبيراً لها.
وليس مستبعداً أن تذهب التحقيقات صوب جهات "ثالثة" من خارج هذه المساحات كلّها، إذ إنّ هناك "خفافيش" خاصة تعشعش في تلابيب الدولة العميقة في كل العالم "الغربي"، ومنها الولايات المتحدة على وجه الخصوص والتحديد ممّن يمكن لها أن تقوم بمثل هذه الجرائم السرّية.
في مثل هذه الحالة يضيع التحقيق في دهاليز الشرطة والنيابة والقضاء لسنواتٍ وسنوات، بل وربما لعقودٍ، أيضاً.
دعونا بهذا الصدد أن نعود لحادثة اغتيال الرئيس جون كينيدي الشهيرة. إذا ما زلنا وحتى يومنا هذا لا نعرف الأسباب الحقيقية، ولا الدوافع الفعلية للاغتيال، وكلّ ما أفرجت عنه الدوائر المختصة بهذا الشأن يمكن إضافته كمادّة لمزيدٍ من غموض الغامض.
لكن الأمر المؤكد في ضوء فشل المحاولة هو أنّ ترامب سيسطع نجمه في سماء الانتخابات أكثر مما كان ساطعاً بعد هذه المحاولة.
وإذا كان هناك بعض الشكوك حول إمكانية نجاحه من عدمها قبل هذه المحاولة، فإنّ هذه الشكوك تتبدّد الآن.
الشيء الأهمّ من هذا كلّه هو أنّ الديمقراطيات "الغربية" تعيش عصر الهشاشة والتداعي.
صحيح أنّ ترامب كان محظوظاً بفشل هذه المحاولة، لكن المحظوظ الأكبر ــ كما أرى ــ هو المجتمع الأميركي نفسه.
دعونا نتصوّر للحظة واحدة أنّ عملية الاغتيال قد نجحت، وأنّ الحادثة قد أودت بحياته، فهل كانت الأمور ستعود إلى حالتها الطبيعية، لكي تسجّل الجريمة ضدّ أحد هو معروف ولكنه مجهول في الواقع.
أظنّ أن محاولة الاغتيال لو نجحت كنّا سنكون الآن في حالة من الفوضى الشاملة في كلّ أنحاء الولايات المتحدة.
وهل كان أنصار ترامب الذين هم أقرب إلى الميليشيات المسلّحة، والذين ينتشرون في كل الولايات ليركنوا سلاحهم جانباً وينتظروا التحقيقات؟
كانت الحرب الأهلية ستدقّ أجراسها، وكان من الصعب أن يتمّ ضبط الأمور بالسهولة التي يتحدّث عنها بعض الهواة من المتابعين. وهذه ليست حالة الولايات المتحدة فقط.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه حلّ الجمعية الوطنية بنيّة إدخال البلاد في أزمةٍ سياسية خانقة يمكن أن تنجم عنها فوضى سياسية عارمة.
والذي أنقذ فرنسا من لعبة ماكرون الخطرة هو الصعود الكبير لقوى اليسار الممثل بتحالف الجبهة الشعبية بحيث تمّ لجم "اليمين الفاشي"، وبحيث تمّ تحجيم ماكرون وحشره في زاوية ضيقة للغاية.
أليس هذا ما يفعله رئيس "حكومة اليمين الفاشي" بنيامين نتنياهو في المجتمع الإسرائيلي؟
ألا يضع دولة الاحتلال أمام أخطار وجودية بشهادة قادة إسرائيليين من "اليمين" نفسه، ومن كلّ الأطياف السياسية، ومن معظم القيادات الأمنية والعسكرية؟
هذه "الديمقراطيات" كلّها تعيش مرحلة الأُفول السياسي، وتتآكل مضامينها مضموناً بعد آخر، ولم يتبقّ منها سوى بعض الشكليات التي ما زالت قادرة على الإمساك ــ مهما كان هذا الإمساك ضعيفاً ــ بشبكات العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في بلدان هذه "الديمقراطيات" المتهالكة.