حاولت أن أتابع أكثر فضائيات الإعلام المُسخَرة كليا لتغطية الحرب على غزة، اكتشفتُ أن حرب الإبادة في غزة تمكنت من تغيير قواعد إعلامية رئيسة في إعلام هذه الوسائل.
من المعلوم أولا أن الهدف الرئيس للإعلام هو التوعية والتثقيف لبناء مجتمع العدالة والديموقراطية، ولتحقيق هذا الهدف النبيل يجب أن يتصف الإعلام بإيراد الحقائق، وأن يكون الإعلام عادلا ومنصفا، وأن يتجنب أكبر الأخطاء المتمثلة في تسخير وسائل الإعلام لتحقيق غاياتٍ أخرى من قبيل تنفيذ مؤامرات خطيرة على الأوطان، أو توظيف الإعلام كبوق دعاية لتحقيق الربح التجاري، أو تسخير الإعلام لتشويه ثقافة المجتمع بجعل التربية والتعليم سلعة تجارية، أو أن يتحول الإعلام إلى صيغة الإعلام الديكتاتوري السلطوي المعادي للحرية والديموقراطية! ليس تجنيا على الإعلام حين نقول: إن حرب الإبادة في غزة أسست قواعد إعلامية جديدة في كثير من وسائل الإعلام، هذه الركائز الجديدة هي انقلابات لا تتوافق مع الأهداف الرئيسة السابقة!
أول هذه الانقلابات حدث في شخصيات المراسلين الصحافيين، فلم تعد الشهادات الأكاديمية والخبرات الإعلامية الطويلة هي الركن الرئيس الواجب توفرها في المراسل الإعلامي، بل أصبح التفضيل للمغامرين ممن لبسوا دروع الصحافة اجتهادا، ممن نقلوا الأحداث نقلا فوريا بلا تدقيق، وفق مبدأ السبق الإعلامي لأن السبق هو الهدف الرئيس! هؤلاء المغامرون جمعوا أكبر قدر من إعجاب المستمعين ما عزز الانتشار لوسائل الإعلام على حساب الحقائق، هؤلاء المغامرون كسبوا سوق الإعلام في ساحات غزة!
كذلك انتفت الفوارق في حرب الإبادة في غزة بين المراسل الصحافي، وبين الباحث والخبير والمحلل الصحافي، أصبح المراسلون محللين سياسيين وخبراء وباحثين، صار الجمع بين كل هذه الصفات في معظم وسائل الإعلام مطلوبا على الرغم من أنه يُعتبر إخلالا بجوهر الرسالة الإعلامية!
ولعل أخطر ما في هذا الأمر أن المراسل الصحافي، وناقل الخبر أصبح مضطرا أن يملأ فراغ الوقت في الفضائية، ما يدفعه إلى تكرار ما يقول مرات عديدة في الوقت نفسه، المهم هو إطالة أمد اللقاء، لتحقيق هذا الغرض!
ومن أخطر التغييرات الجارية على مبادئ الإعلام أن وسائل الإعلام غضت الطرف عن ركن المصداقية الإعلامية، وصارت تطلب من الإعلاميين وهم في مكان بعيد عن الحدث أن يصفوا أحداثا وقعت بعيدا عنهم لم يرصدوها ويوثقوها في المكان، أُجبر هؤلاء الإعلاميون المغامرون على وصف الأحداث بالاعتماد على السماع!
أما أخطر الممارسات الإعلامية، التي ظهرت بجلاء في حرب الإبادة في غزة هو توظيف الأحداث لخدمة سياسة الجهة الإعلامية أو القناة الفضائية أو شركات الإعلام، بارتكاب أخطر جرائم الإعلام وهي جريمة التضخيم والتقزيم!
أما سياسة تضخيم الرسالة الإعلامية، فتتمثل في تسليط الأضواء على الحدث الخادم لسياسة القناة الفضائية وتضخيمه باعتماد التهويل والتضخيم، وهذا ما حدث في غزة بالضبط، حين جعلت وسائل الإعلام قطاع غزة دولة عسكرية كبرى، وليست مدينة صغيرة محتلة، وصورت غزة وكأنها على وشك إبادة إسرائيل، وأن قطاع غزة بهذا التضخيم يهدد السلام العالمي بما يملكه من أسلحة مطورة! ولتعزيز التضخيم فإن تلك الوسائل سخرت كل وقتها لبث الأحداث التي تغذي هذا التضخيم!
ولكي تتمكن وسائل إعلام التضخيم والتقزيم من تنفيذ مخططها فإنها تستقطب كثيرين من مدعي الخبرات والتحليلات، ممن يجيدون فهم سياسة وسيلة الإعلام وركوب موجتها، مثل نجوم قارئي فناجين خرائط الأحداث عن بعد، يرسمون الخرائط الرقمية ويضعون العلامات الحمراء والسوداء ويدفعون المشاهدين إلى متابعتهم، هم أيضا يدخلون ضمن جوقة الحشد المطلوب للفضائيات المسخرة للتضخيم!
بالإضافة إلى ذلك تمكنت تلك الوسائل من تشكيل فريق كومبارس للتضخيم الإعلامي، يضم هذا الكومبارس محللي الأحداث السياسية، معظم هؤلاء يدركون الأبعاد، يحللون الأحداث وفق النظرية الخطيرة وهي تضخيم قدرات المقاومة لإحداث تعادل بين قطاع غزة السجين المحتل من الأعداء برا وبحرا وجوا، وبين الدولة النووية، بل هم يُغلبون غزة على هذه الدولة! ولإتمام سياسة التضخيم الإعلامية استأجرت وسائل إعلامية كثيرة جنرالات العسكر العرب المتقاعدين لتحقيق تلك الغاية، ودفعتهم لأن يقوموا بدور التضخيم، فقسموا قطاع غزة وهو أقل من مساحة أي مدينة صغيرة في العالم إلى قطاعات عسكرية كبرى، تشبه قطاعات دول أوروبا في الحرب العالمية الثانية: القاطع الشمالي، والقاطع الجنوبي، مع العلم أن المسافة بين القاطعين في غزة أقل من خمسين مترا هي وادي غزة للصرف الصحي! وقسموا ساحة المعركة إلى مناطق رخوة، وإلى جيوب صلبة، ورمال متحركة، ومصائد مفخخة!
إكمالا لسياسة التضخيم عمدت هذه الوسائل إلى ملء فراغ اليوم الكامل في تلك القنوات ووسائل الإعلام فاستحدثت مدارس أدبية لغوية لوصف الأحداث، على وقع نحو وصرف سيبويه، وعزف خطبة البتراء لزياد بن أبيه، فأنشد بعضُ منفذي برامج الغزل اللغوي والأدبي معلقاتهم على وقع موسيقى الحداثة اللغوية! فظهر أدبُ جديد في كثير من الفضائيات سميته، أدب الوقوف على أطلال غزة! وهو فن أدبي مستحدث في إعلام التضخيم، جاء على نغمة المعلقات العشر في سوق عكاظ، قال أحدهم: "إبادةُ، أم بعث جديد أم تضحياتٌ، هي واجهات الزمن المسكوب في كؤوس غزة، إنه زمنٌ أرضعته الخطوب والآلام، وغذَّتْه الإرادة والأحلام، وسقتْه رباب المزن الشفيفة، فعشق أهلُه الخلود، وحثوا الخطى ليلحقوا بركب الشهداء، جودي يا غزة بالأجساد، تخلدين في الآباد"!
ولكي تكتمل صورة التضخيم عمدت وسائل الإعلام المقصودة لإبراز النقيض، وهو تقزيم الطرف الآخر إسرائيل، وإبرازها بأنها على شفا حفرة من الانهيار، وأن ساعة إزاحتها عن الوجود قريبة، وأن عهد انتظار زوال إسرائيل بات قريبا! ولتحقيق هدف التقزيم نشر هذا الإعلام كتائب مراسليه في ساحات إسرائيل نفسها، وهم بالمناسبة مرخصون من إسرائيل، نشروهم في شوارع تل أبيب والقدس وحيفا وصفد، يرصدون التظاهرات الإسرائيلية الصاخبة ضد نتنياهو وحكومته، كذلك ركز هذا الإعلام على الخلاف بين أميركا وإسرائيل، وأفرد الأولوية لتمرد قادة الجيش قولا لا فعلا، ما يعزز نظرية التقزيم، وهذا كله يعطي الانطباع بقرب انهيار المنظومة الأمنية الإسرائيلية بالكامل!
أخيرا، أرجو ألا نصل إلى مرحلة اليأس والإحباط لأن للتضخيم والتقزيم أثرا بالغ الخطورة على الجميع، فحينما تنتهي الأحداث، يستيقظ الحالمون، حينئذٍ يصاب المضخِّمون والمقزِّمون بالإحباط واليأس، ويصابون بمرض كره الوطن والرغبة في الهجرة منه!.