إذا أردتم رأيي فإن بنيامين نتنياهو فهم وأدرك بعمق، واستناداً إلى معطيات ملموسة، أنّه في طريقه إلى إخفاقٍ كبير، وربما إلى هزيمة مُنكرة.
هذا الإدراك ليس خلال الآونة الأخيرة أبداً، وإنّما منذ نهاية الشهر الثالث للحرب، وإذا أردنا الدقّة منذ أن نفدت الفرصة الأولى، والتي حُدّدت كما يُقال في كواليس العرب والعجم بثلاثة أسابيع، ثم بشهرٍ إلى شهرين، ومع استنفاد كامل الشهر الثالث انتهت وانتفت أيّ إمكانية لربح الحرب عسكرياً.
من زاوية المنطق السياسي، وحتى العُرف الدبلوماسي، ومن زاوية علاقات التحالف الخاصة والفريدة بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال لم يكن ممكناً، ولا بأيّ صورةٍ من الصور، أن يقول وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ما قاله حول أن إسرائيل، بقدر ما تحاول أن تربح الحرب على صُعدٍ تكتيكية فإنّها، عند درجةٍ معينة تغامر بالخسارة الإستراتيجية لهذه الحرب.
هذا التصريح ما كان يمكن أبداً أن يصدر عن وزير دفاع أكبر دولة داعمة لدولة الاحتلال في هذه الحرب، بل وشريكة كاملة ومباشرة فيها، ومسؤولة مسؤولية مباشرة عن دعمها بكل ما تحتاجه من مال وسلاح، ومن غطاء سياسي ودبلوماسي كامل ومتكامل لولا أنّ الولايات المتحدة وأجهزة استخباراتها، والمعلومات التي تحصّلت عليها من أعمق المصادر الخاصة، ومن غرف العمليات المغلقة، ومن مؤسّسات تابعة لدولة الاحتلال، وتحت بند (سرّي للغاية)، قد أوصلت أوستن إلى هذا النوع من التصريح، الأقرب في معناه، وفي فحواه إلى اليقين منه إلى الإمكانية أو الشكّ أو الاحتمال.
وما كان يمكن أن تتخبّط دولة الاحتلال في تحديد "أهداف" الحرب، واستبدالها بأهداف أخرى بمعدّل مرّة أو مرّتين في الشهر الواحد، وأحياناً في الأسبوع الواحد لولا أنّ الوقائع الميدانية كانت "تُرغم" القيادات السياسية والعسكرية على حدّ سواء على هذا الاستبدال المضحك في كثير من الأحيان.
وما كان يمكن أبداً أن تنشب كل الاختلافات داخل "مجلس الحرب"، الواسع والضيّق، ولا داخل المؤسّسات العسكرية والأمنية، ولا بين هذه القيادات والقيادات السياسية، وخصوصاً مطاردة نتنياهو حول ما سموه "اليوم التالي للحرب"، وكانوا كلّهم، ودون استثناء يقصدون أوّلاً، وقبل أيّ شيء اليوم الذي سيلي القضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة.
كذلك لم يكن ممكناً أبداً ألّا يكتشفوا بعد طول انتظار وترقُّب أن نتنياهو ليس لديه ما يقوله لهم سوى ما كان يقوله طوال الوقت، وبسبب استحالة تحديد مثل ذلك اليوم، والأهداف التي ستترتّب عليه في ظلّ المعطيات الميدانية التي كان يدركها نتنياهو.
وتحوّلت "أهداف" الحرب إلى ملهاةٍ سياسية للمطالبين بها وكذلك للرّافضين لها.
وحتى بالنسبة للولايات المتحدة فقد كانت المطالبة بمثل هذا التحديد ليست أكثر من محاولة "سياسية" حتى تتمكّن من إنقاذ دولة الاحتلال من الوصول إلى الفشل الإستراتيجي المدوّي والمفضوح، وحيث سيصعب على الولايات المتحدة في حينه استدراك الأمور في الوقت المناسب.
ولم يكن ممكناً أبداً أن "تفلت" بعض الأصوات المنادية باستخدام القنبلة النووية، ليس من قِبَل المهووسين من عُتاة المتطرّفين والفاشيين، وإنّما من قبل شخصيات "رسمية" لولا أنّ إحساساً عميقاً بات ينتاب أوساطاً مختلفة في إطار الائتلاف الفاشي من أن دولة الاحتلال تخوض حرباً خاسرة، قد تُفضي إلى تهديد دورها، ومكانتها، وربما وجودها، أيضاً.
ثم لم يكن ممكناً أبداً أن تتوالى تهديدات دولة الاحتلال بتحويل لبنان إلى حالة أشبه بحالة غزّة من زاوية الدمار والإبادة، ومن زاوية التشريد والقتل الجماعي تحت مسمّى كرّره كلّ قادة وجناة الاحتلال على مدار شهور كاملة بإرجاع لبنان إلى "العصر الحجري"!
وبلغ التهويل بهذا الأمر ذروته "بالتهويش" الذي مارسته وسائل الإعلام الإسرائيلية، ثم "الغربية"، وبعض وسائل الإعلام العربية، وخصوصاً الدعوات لمغادرة لبنان "فوراً"، وعلى جناح السرعة، وكأنّ التهديدات الإسرائيلية ومع كلّ تهديد جديد أصبحت وتحوّلت إلى مسألة وقت قصير بما يشبه النداء الأخير للمسافرين الذي تعلنه شركات الطيران المدني في كلّ مطارات العالم قبل الإقلاع.
وتحوّلت التهديدات بإرجاع لبنان إلى "العصر الحجري" إلى أُضحوكة سياسية، وإلى فضيحة معنوية كان أكثر المتندّرين بها هم سكّان المستوطنات الحدودية لجنوب لبنان، أو من تبقّى منهم، والمهجّرون الذين يعيشون في "الفنادق" والخيام الجديدة، وبعدما فقدوا كلّ شيء، وباتوا مُشرّدين كغيرهم من مُهجّري "الغلاف" إن لم يكن أسوأ منهم.
الولايات المتحدة منعت، بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى دولة الاحتلال من مجرّد الحديث عن "فتح" جبهة جديدة للحرب على لبنان، بل ومنعت مجرّد إطلاق التهديدات خشية من العواقب التي تدركها الولايات المتحدة أكثر من غيرها، وقبل غيرها، لأنّها تعرف حق المعرفة حقيقة ما وصلت إليه الأمور في دولة الاحتلال من اختلالات قاتلة في القدرة، وفي الأداء، وما وصلت إليه الأمور من انكسارات إستراتيجية باتت مؤكّدة، ومتحقّقة في الواقع الميداني.
المهم في ضوء ذلك كلّه أنّ "الاعتراف" بهذا الواقع لم يعد مجرّد تخمينات صحافية أو إعلامية، وإنّما أصبح رسميا وشبه رسمي.
بات الحديث عن أعداد القتلى والجرحى والمُعوّقين، والمصدومين والذين أصبحوا خارج الخدمة يدحض بصورةٍ فائقة كلّ أشكال الكذب الذي مارسته قوى الجيش والأمن عن سير المعارك في القطاع، وعن الخسائر التي مُنيت بها القوى البشرية في هذا الجيش، والخسائر التي لحقت بسلاح المدرّعات الإسرائيلي، والتي وصلت إلى حدود الاستغاثة الحقيقية لنجدة الجيش الإسرائيلي سريعاً بالقوى البشرية وبالذخائر وبالدبّابات التي لم تعد تكفي لسدّ احتياجات الجيش في الحرب الدائرة في الوقت الذي يواصل عُتاة التطرُّف والفاشية الاستمرار في هذه الحرب، والتمدُّد بها إلى جبهاتٍ جديدة ليس فقط لبنان، وإنّما وصلت بهم الأمور للحديث عن اجتياحات شاملة لسورية، وضرب إيران، وتدمير كلّ ما يمكن تدميره، أو ما يمكن لإسرائيل تدميره على مستوى الإقليم كلّه. لم يعد أمام الدولة العبرية سوى أن تبحث عن صورة انتصار وهمية.
لماذا أقول وهمية؟
الجواب: هو أنّ هناك صورة "حقيقية" وليست وهمية موجودة في عقل نتنياهو، والصورة الوهمية يمكن أن تكون أيّ شيءٍ يتم تحقيقه، مثل قتل قيادات من المقاومة، و"نجاح" اغتيالات "أكبر" في لبنان أو سورية، وأيّ هالة إعلامية من أيّ نوعٍ كان.
الصورة الحقيقية، والتي تحقّق لنتنياهو كلّ ما يخطّط له هي الدمار الكامل للقطاع، وتحويل هذا الدمار إلى الشكل الجديد "للردع" والإرعاب، وتصوير هذا الردع باعتباره "نموذجا" قادما، أو يمكن أن يتكرّر مع أيّ أحد.
ومنذ "فشل" التهجير الجماعي بالصدمة الأولى من الأيّام الأولى للحرب الدموية والتدميرية، تحوّل التهجير إلى تشريد أكثر من مليوني فلسطيني وتحويلهم إلى "نازحين" تحت الموت والقتل الجماعي، وتحت الجوع والأمراض، ودون أيّ مساعدةٍ تُذكر لكي يقول نتنياهو، إنّ إسرائيل ليس لديها لكلّ من يطالب بحقوقه منها سوى هذه الصورة.
هذه الصورة هي التي ما زال يبحث عنها نتنياهو قبل غيرها، وهذه هي الصورة التي جعلت الولايات المتحدة تداريه وتغطّي عليه للوصول إليها، وهذه هي الصورة التي سيذهب ليبيعها لأعضاء الكونغرس الأميركي، وخصوصاً الذين يمسك بهم اللوبي الإسرائيلي من أعناقهم، لأنّه وليّ نعمتهم، وهو الوحيد الذي يؤمّن نجاحهم، وبقاءهم، وهم تحت وصايته الكاملة، وتحت رقابته على كلّ كلمةٍ يقولونها، وعلى كلّ إيماءة سياسية لهؤلاء الأعضاء.
نتنياهو نجح في جرجرة المجتمع الإسرائيلي إلى حيث يستطيع الآن أن يؤجّل كلّ شيء إلى ما بعد العطلة الصيفية للكنيست، وإلى حيث يعيد ترتيب أوراق العلاقة مع الرئيس السابق دونالد ترامب، ويرمّم ما يمكن أن يرمّمه مع القيادات المختلفة في الحزب الديمقراطي علّه يتمكّن من أن يعود للانتخابات إذا أُرغِم على ذلك.
وإلى أن "تنضج" الأمور عند هذا المستوى سيواصل القتل والإجرام بكلّ ما أوتي من قوّة، وتحديداً إذا ما أُرغم على صفقةٍ للتبادل. فشل كلّ ما كان يُقال عن أهداف لهذه الحرب، ودولة الاحتلال باتت على قناعة بأنّها خسرت الحرب، لكنها استطاعت أن تدمّر غزّة، وأن تشرّد مئات الآلاف في العراء، واستفردت بالضفة الغربية، وتشنّ حرباً على الشعب الفلسطيني كلّه، وخصوصاً على مخيّمات اللاجئين تحديداً، ولم يعد أمامها سوى البحث عن صورة الإجرام، كصورةٍ وحيدة تراهن عليها للظهور أمام نفسها بأنها انتصرت، أو أنّها لم تُهزَم، أو أنها لن ترضخ مهما كان الثمن.
والصراع، اليوم، هو في الحقيقة صراع على الوعي، وصراع على مدى ما يمتلك كلّ شعب من الشعبين من حصانة ومناعة وقدرة على الصمود، ومن إيمان وتصميم.
سينتصر الفلسطيني فقط عندما يؤمن ويوقن أنّ عدوّه قد انكسر، وهو على طريق الهزيمة والاندحار، وليس أمامه سوى أن يقتل للتعويض عن الهزيمة والانكسار باعترافه واعتراف داعميه، واعتراف المرتجفين منه.