مَن الذي قال لك أن تكون غزّياً؟

lFDcS.png
حجم الخط

بقلم حمدي فراج

مَن الذي قال لك أن تكون غزياً، فتضطر لأن تدفع ما تدفعه الآن من أصناف العذاب، يهون الموت أحياناً معها، أو تتمنى الموت مع أطفالك وأفراد عائلتك، فلا تطاله ولا تحصل عليه، ثم تسلّم بهذا القضاء والقدر، في انتظار أن تأتي اللحظة، كي تلتحق بهم في وقت لاحق، فزمن القتل مفتوح على ما يبدو، رغم ضيق المكان، والقبر الذي كان يتسع لقتيل واحد أصبح يتسع لاثنين وعشرة وعشرين، ما يسمى في لغة المذابح، مقابر جماعية، وأصبح الدفن لا يقتصر على المقابر، بل في الشوارع، وباحات المؤسسات، والمستشفيات، ومدارس الإيواء، والأسواق، وحتى المنازل.


شهية القاتل، والحمد لله، مفتوحة، وهذا ربما يبشّر بالخير. وفي انتظار أن يأتي هذا الخير عبر قذيفة أمريكية ثقيلة جديدة صالحة للاستخدام البشري على خيمة نزوح، سهلة الاستهداف والاختراق، بدلاً من البيت المسقوف بالباطون والإسمنت المسلح. 

 

ولكن، ألا يتطلب ذلك أن أجد الطعام والماء الذي يساعدني على الانتظار؟ ألا يتطلب الانتظار جوعاً وعطشاً، بعض الدفء في الشتاء القارس، وبعض الفيء في الصيف الحارق، وبعض النظافة بعد الفضلات التي تخرج من الإنسان، وبعض الكلمات التي من شأنها تخفيف وطأة هذا العذاب، خاصة من إخوة لنا قالوا ذات مرة إننا أمة واحدة، إذا اشتكى منها عضو تداعى له باقي الجسد بالسهر والحمى. أصبح دمي في عينيه ماء، حتى كلمة "شهيد" يراها كثيرة علينا، فإذا لم يكن أطفالي شهداء، فمن هم الشهداء يا ترى؟ أما إخوتنا من نفس الشعب، فقد عكف بعضهم على إقامة أفراح أعراسهم وسط صخب واحتفال ورقص وغناء، أفراح تثير الحزن أكثر، في حين عصف البعض السياسي منهم بالمقاومة والمقاومين، ولم يعترفوا ولو بعملية مقاومة واحدة، ولا بمقاوم واحد على مدار عشرة أشهر، حتى خرجوا علينا يحملّون مسؤولية مجازر الاحتلال المطلوب اليوم رأسه للمحاكم الدولية، لهذه المقاومة، بدعوى أنها من تقدم الذرائع لهذا الاحتلال بارتكاب مجازره.


من الذي قال لي أن أكون غزّياً؟ أنا شخصياً لا أعرف، ولكني أعرف الصهيونية التي قالت لي ولأبي وجدي من قبلي، ولأولادي من بعدي، وتتكرر اليوم على المسامع بكثرة، آخرها على لسان زعيم جديد اسمه سموتريتش: لكي أقبل بأن تكون هنا، أمامك ثلاثة خيارات، إما أن تكون خادمي بالسخرة، وبدون أية حقوق أو تطلعات، وإما أن ترحل فتصبح أردنياً أو مصرياً أو أسترالياً، وإما أن تذهب إلى قبرك بعد أن تكون قد حفرته بيدك. السجن ليس خياراً بعد أن حولوه إلى نوع آخر من القبور.

ولكن أنت تعرف من الذي قال لك أن تكون صهيونياً. أنت من قلت ذلك لنفسك، وتتحمل تبعات قرارك، عبء كل هذه الدماء على يديك، وكل هذه المجازر التي يندى لها جبين الإنسان والحيوان على حد سواء، لتضطر بعدها لمواجهة العالم كله، بكل ألوانه وأطيافه ولغاته.

أصبح دمي في عينيه ماء، حتى كلمة "شهيد" يراها كثيرة علينا، فإذا لم يكن أطفالي شهداء، فمن هم الشهداء يا تُرى؟