من أقصى شمال غزة وحتى جنوب القطاع، لم يتوقف العدوان الإسرائيلي عن استهداف كل المناطق والتناوب عليها وتدميرها بالكامل، تحت شعار استعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول الماضي.
التناوب على اجتياح المناطق في غزة وإعادة تدوير العدوان عليها، يعكس حالة من التخبط السياسي والعسكري الذي تعيشه إسرائيل منذ بداية هذه الحرب، وليس هناك من سياسة واضحة وثابتة سوى تدمير غزة وجعلها منطقة منكوبة وغير صالحة للسكن الآدمي.
منذ أكثر من شهر تقريباً والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية تدّعي قرب انتهاء المرحلة الثالثة والإجهاز على كتائب "حماس" في مختلف مناطق القطاع، غير أن ذلك لم يحدث، والنتيجة فتح المزيد من النار والثأر من المدنيين الفلسطينيين العزل.
اليوم ليس هناك خطة عسكرية واضحة لوقف العدوان، ولا هناك خطة واضحة لمستقبل قطاع غزة، وكل ما يتحدث حوله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مجرد تمنيات، خصوصاً وأن هناك خلافاً يتعاظم بينه وبين بعض التيارات السياسية التي ترغب في إبرام صفقة على حساب أي تصورات سياسية.
حتى يبقى نتنياهو في القمة يحتاج إلى المزايدة على أنصاره في معسكر اليمين المتطرف، ولذلك كثيراً ما ردد موضوع نزع سلاح غزة وتولي المسؤولية الأمنية حتى بعد وقف الحرب، وإيجاد سلطة مدنية فلسطينية تعلّم الأجيال الشابة على السلام ونبذ التطرف ومعاداة إسرائيل.
في خطابه أمام الكونغرس الأميركي الأربعاء الماضي، لم يتحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي أبداً عن دولة فلسطينية مستقلة تعيش إلى جانب إسرائيل، وكل حديثه تركز في الحرب على غزة وكيفية هزيمة "حماس" والدعوة لتشكيل تحالف أمني شرق أوسطي لمواجهة إيران.
حتى أنه لم يتطرق إلى ملف المفاوضات الحالية الذي يتحرك ببطء بشأن إتمام صفقة مع "حماس"، والأساس أنه -نتنياهو- أراد تعزيز شرعيته وكسب المزيد من التأييد الأميركي لحربه على غزة، ودعمه بالمال والسلاح حتى ينجز هذه المهمة.
لقد كان خطابه استعراضياً استهلاكياً لتعظيم التعاطف مع بلاده، حتى أنه استثمر هذا الخطاب لتخفيف حدة الانتقاد الموجهة له من قبل أبناء جلدته في إسرائيل، بالتركيز على أن واشنطن تسير معه على نفس الموجة، وليس هناك من قلق بشأن الضغط لوقف الحرب بعيداً عن المطالب الإسرائيلية.
الآن وعلى الرغم من الحديث الأميركي بشأن الاقتراب أكثر لإنجاح مسار المفاوضات والوصول إلى اتفاق بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، إلا أن إسرائيل تريد هدنة على مقاسها والأهم أنه اتفاق لوقف إطلاق النار مؤقت، يسمح لها باستكمال العدوان على غزة.
الموقف الإسرائيلي حتى هذه اللحظة يصر على أن الهدنة لا ينبغي أن تكون دائمة، وثانياً لا يريد الانسحاب من محور فيلادلفيا، ويرى أن من حقه إبقاء السيطرة الأمنية على غزة حتى في فترة التهدئة وما بعدها، ولذلك ما تزال المفاوضات بعيدة نوعاً ما عن التوافق والاتفاق.
أيضاً يجري الحديث عن تحييد "حماس" عن إدارة معبر رفح الحدودي، وإيجاد هيئة فلسطينية أو حتى عربية تدير المعبر، وعلى أن تكون لإسرائيل اليد الطولى في مراقبة حركة المسافرين والبضائع عبر هذا المنفذ الذي من المحتمل تحريكه باتجاه أقصى الشرق ناحية السياج الحدودي مع إسرائيل.
كذلك موضوع عودة النازحين الفلسطينيين من جنوب القطاع إلى شماله فيه نقاط اشتباك، لأن إسرائيل متمسكة بمبدأ "فلترة" السكان، ويأتي إنشاء محور "نيتساريم" الواقع وسط القطاع تقريباً لخدمة هذا الغرض الأمني، إلى جانب فتح طريق يسمح لإسرائيل الدخول السريع لغزة وتقطيعها وفصلها في منطقة الوسط.
ثمة مقولة صحيحة وهي أن التاريخ يكتبه المنتصر، وإسرائيل ما تزال بعيدة جداً عن تحقيق انتصار في مربع قطاع غزة، ولذلك يبدو أن رؤية نتنياهو بشأن مستقبل غزة غير واقعية بينما الرصيد العسكري الإسرائيلي في غزة يساوي صفراً.
صحيح أن نتنياهو يضغط على دواسة "البنزين" لسحق الفلسطينيين في غزة، لكن التاريخ يشهد أن سمعة إسرائيل تتآكل يوماً بعد يوم، وربما يأتي ذلك اليوم الذي يحاسَب فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه غالانت على كل الفظائع التي ارتُكبت في غزة.
لقد علِقت إسرائيل في مصيدة غزة وهي تجعلها غير قادرة على رفع الراية البيضاء ولا تحقيق انتصار حقيقي، ولذلك أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم ورفع سقف الاشتراطات حتى لو كانت بعيدة عن الواقع، وما يحدث الآن هو محاولة الحصول على ثمن مربح لإسرائيل للقبول في مفاوضات تتجنب سقوطها.