لا يمكن الاستخفاف بزيارة نتنياهو للكونغرس الأميركي ولا بالتصفيق الذي قوبل به رغم أن خطابه لم يكن أكثر من دعاية فارغة وغير أخلاقية لاستكمال حرب الإبادة التي يشنها على شعبنا في غزة. لكنه يدرك أنه بحاجة للتصفيق وللتشجيع من حلفائه في واشنطن.
وبصرف النظر عن ما يمكن أن يقال عن الزيارة إلا أنها تأتي ضمن مساعيه للحفاظ على وتيرة الحرب والاستمرار فيها.
بعض التفاصيل قد تكون مقلقة بالنسبة له كما بالنسبة لمعارضيه لكنه أيضاً يواصل فكرته القائمة على أن هدف الحرب هو الحرب ذاتها.
فهو لا يعمل شيئاً غير تسعير الحرب ودفعها للأمام مدركاً أنه رغم مطالب المرشحين للرئاسة الأميركية بضرورة وقف الحرب إلا أن هذا لا يعني شيئاً في ميزان الضغط الحقيقي إذ إنه كلما مر الوقت فإن الاهتمام الأميركي بوقف الحرب يتلاشى لصالح الانشغال بالدعاية الانتخابية وبالصراع المستميت لأن كل مرشح يريد أن يكسب الانتخابات فهي فرصته الوحيدة.
بالنسبة لترامب قد تكون هذه آخر مرة يتنافس فيها للسباق الرئاسي وعليه فإنه لن يترك أي فرصة للفوز.
في الانتخابات السابقة التي خسرها أمام الرئيس الحالي بايدن كاد ترامب وأتباعه يحرقون الولايات المتحدة غير مصدقين أنهم خسروا وغير راضين بقبول النتائج.
هذه المرة الأمر سيبدو أكثر صعوبة بالنسبة له، وعليه فإن القتال من أجل الفوز هو ما سيهم ترامب الذي بدا في بداية السباق الرئاسي الحالي حين كان بايدن منافساً له أقرب ما يكون للمكتب البيضاوي، إلا أنه الآن بات يدرك صعوبة التنافس أمام منافس جديد أكثر شباباً وأكثر حيوية من منافسه السابق.
وعليه فإن شغل ترامب الشاغل سيكون فقط الفوز ولا شيء آخر.
الأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة للمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس التي وجدت نفسها تقفز لحلبة الصراع بشكل مفاجئ وإن لم يكن متأخراً. فهي بحاجة لأن تفوز لأن خصمها عنيد وصعب وغير متوقع كما أن الديمقراطيين يريدون أن يواصلوا حضورهم في البيت الأبيض بعد سنوات بايدن المتعثرة وأدائه العاجز، كما أن هاريس ربما قد تكون أول رئيسة امرأة للولايات المتحدة بعد تعثر هيلاري كلينتون في آخر محاولة تقوم بها امرأة وأيضاً كان ذلك أمام ترامب.
بالنسبة لهاريس فهذه فرصة لا تعوّض ما كانت لتحظى بها لو تم التنافس في دوائر الحزب بطريقة سلسة وعادية ولم يأتِ نتيجة تراجع الرئيس بايدن وضغط الدوائر المقربة عليه لترك حلبة التنافس لشخص آخر.
هذا يعني أن قضية الحرب لن تكون في قائمة الأولويات وليست مادة للخلاف والاختلاف. قد تظهر بين فينة وأخرى في السباق الرئاسي ولكنها ستظهر بوصفها قضية من جملة قضايا.
لنتذكر أن الناخب الأميركي لا ينتخب بناء على السياسات الخارجية للرئيس وهذه أي السياسات الخارجية لا تكون في حسبان أن ناخباً حين يختار من يمثله، بل إن ما يحدد خياراته هو القضايا الداخلية التي تمس حياته والتي تؤثر على مستوى معيشته وهذه واسعة ومتعددة وفي صلبها النظام الاجتماعي والصحي والضرائبي والخدمات وغير ذلك.
لا أحد ينتخب رئيساً لأن مواقفه من قضية معينة تتوافق مع القيم التي يؤمن بها أو لأنه ينظر بإيجابية للبسطاء والمقهورين في العالم، بل المطلوب منه أن ينظر إلى مواطنيه عبر سياسات تحميهم وتدافع عن مصالحهم.
من المؤكد أن ثمة من ينتخبون وفق سياسات تتعلق بالقيم والتوجهات ولكن أيضاً لا تكون هذه بمجملها ذات امتدادات خارجية.
مثلاً الأقليات قد تنتخب شخصاً ينظر بإيجابية تجاه تسهيلات تمنح في قضية الهجرة وتخفف القيود عن التجنيس وما إلى ذلك ولكن أيضاً هذه في النسق العام هي سياسات داخلية لأنها تتعلق بالمواطن حديث التجنيس وبالمهاجرين وعلاقتهم بالوطن الجديد.
وعليه فإن قضية مثل قضية الحرب على غزة لن تكون حاسمة في أي نقاش لأنها ليست قضية داخلية رغم أن شخصاً مثل ترامب قد يجد من المفيد التركيز على الأسرى في غزة الذين تقول واشنطن إنهم مواطنون أميركيون بوصف دعم الحرب أو الدعوة لإنجاز صفقة تبادل قضية أميركية داخلية.
لكن أيضاً هذا لن يكون ضمن الموضوعات ذات التأثير الكبير في توجهات الناخب الأميركي.
كان منظر النائبة الفلسطينية الأصل رشيدة طليب لافتاً وهي تقف في الكونغرس تحمل لافتة تنعت نتنياهو بمجرم الحرب.
كانت وحيدة تلبس الكوفية وتواجه التصفيق الأرعن الذي حاول اللوبي اليهودي في الكونغرس أن يقابلوا فيه كلمات نتنياهو ودعواته للمزيد من سفك دماء الفلسطينيين.
ولكن أيضاً رغم أنها وحيدة فإن هذا لا يعني أن الجميع مع نتنياهو.
هناك الكثير من الجهد الذي يجب أن يتم بذله من أجل تغيير البوصلة في واشنطن، وهي بوصلة تم تصميمها من أجل أن تظل دائماً تشير إلى تل أبيب.
ومع ذلك فإن هذه المواقف لا يمكن أن تظل أبدية. ونتنياهو الذي يدرك أن الأمر الذي لا يبتغيه لا يتم بصورة مثالية عندما يذهب ليتحدث للجميع قبل الانتخابات من أجل التأثير، ليظل السؤال كم مرة وقف رئيس عربي خلف منصة الكونغرس ليتحدث لممثلي الشعب الأميركي.
آخر زيارة لزعيم عربي للحديث للمشرّع الأميركي كانت في العام 2007 حين خاطب الكونغرس العاهل الأردني الملك عبد الله وقبل ذلك والده الراحل الملك حسين العام 1994. وكان خطاب السادات في العام 1975 أول خطاب عربي هناك. نتنياهو وحده وقف أربع مرات أمام الكونغرس.
بعبارة بسيطة أن المشرّع الأميركي قلما يستمع للرواية العربية عن الصراع.
أعرف أن أمر ترتيب خطاب عربي أو فلسطيني أمام الكونغرس أمر صعب وبحاجة لترتيبات وموافقات وغير ذلك، ولكن ما قيمة كل علاقات الدول العربية مع واشنطن إذا لم نفلح على الأقل في أن نقول رأينا كما تفعل إسرائيل.