بنظرة سريعة على مدى قرن من عمر الصراع العربي الصهيوني، يمكن المجازفة بالقول إن إدارة الصراع من الطرف الفلسطيني (رغم مرونته ومهارته الفائقة في إدارة التكتيكات والتغلب على كثير من العراقيل) كانت تتم دون رؤية إستراتيجية واضحة، ودون تخطيط مسبق، بل كانت بالعموم مرتهنة بأشخاص معينين، وبطريقة الارتجال والمبادرة والتجريب وردود الأفعال، والتي كانت في كثير من الأحيان نوعا من التخبط.
ولا شك أن غياب الإستراتيجية الواضحة عن نهج وأداء القيادة الفلسطينية قد جلب نتائج كارثية على الشعب والقضية الوطنية، وكان من بين أهم عوامل التراجع والإخفاقات التي منيت بها الثورة الفلسطينية، بدءا من استنزاف مقدرات الشعب البشرية والمادية في مواجهات وصراعات جانبية، أو في مواجهات فصائلية موسمية مع العدو أدت لخسائر فادحة دون تحقيق أي منجز وطني، أو في إخفاقها في الجمع ما بين قدرات وإمكانات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، والمزاوجة بين الجهود الدبلوماسية والعمل السياسي من جهة والمقاومة المسلحة التي تمارسها الفصائل الوطنية من جهه ثانية، وانتهاء بالأزمة التي يمر بها المشروع الوطني برمته.
والغريب أن الجماهير الفلسطينية التي تضم خيرة العقول والكفاءات والمفكرين، والقيادة السياسية صاحبة التجربة المريرة والخبرة الطويلة، لم تتوصل لصياغة إستراتيجية شاملة بعيدة المدى، بحيث توجه الصراع بالاتجاهات الصحيحة، وتقرب ساعة النصر، أو على الأقل تقلل من حجم الخسائر.
وما تقوله القيادة في تصريحاتها المتواترة عن توفر جعبة محتشدة من الخيارات البديلة عن خيار المفاوضات، لا تعدو كونها نوعا من الخطاب التعبوي، أو مجرد تهديدات. وأمام الحالة الفلسطينية التي لم تشهد تراجعا مشابها منذ عقود طويلة، حيث الانقسام، وتآكل الشرعيات، وتغييب دور منظمة التحرير، وتعطيل مشاريع إصلاحها وتفعيلها، وغياب البرامج الوطنية الثورية، وضعف الموقف الشعبي الذي سببه ضعف أداء القيادة .. أمام هذا كله، تبرز الحاجة الملحة أكثر من أي وقت سابق لتبني إستراتيجية فلسطينية شاملة، تعمل على استنهاض كل عناصر القوة الفلسطينية، وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، ووضع الأمور في نصابها الصحيح.
فالحالة الفلسطينية ليس أمامها سوى مسارين: إما النهوض أو الأفول، ويتوقف الذهاب باتجاه أي من هذين المسارين على ما تفعله، أو ما لا تفعله الفصائل الفلسطينية، وبشكل خاص حركة فتح. في كتابه الأخير، "فتح 50 عاما" يطرح الباحث "ماجد كيالي" رؤيته لصياغة استراتيجية بديلة، مبينا أن أية إستراتيجية وطنية لا بد أن ترتكز على فكرة مواصلة الكفاح، بحيث إذا أخفق مسار كفاحي معين، يجب تبني مسار بديل، وعدم النكوص والتراخي بأي شكل، وأن يتأسس الكفاح الوطني على فكرة تعزيز صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه، وممارسة كافة أشكال المقاومة الشعبية، والنضال ضد كل تجليات الاحتلال والعنصرية، وأن يتواكب النضال داخل الأرض المحتلة (وأيضا داخل الخط الأخضر) في مسارات موازية ومتصلة مع النضال خارجها، أي في المنافي والشتات.
ويضيف "الكيالي": فإذا كان الهدف المعلن لفلسطينيي الأرض المحتلة هو إقامة دولة مستقلة، وكانت مطالب فلسطينيي الداخل هي المساواة، ومطالب فلسطينيي الشتات هي العودة؛ فإن الإستراتيجية الفلسطينية الشاملة، يجب أن تتضمن هذه الأهداف العادلة، وتصوغ برامجها الكفاحية على أساسها، بحيث تحافظ على وحدة الشعب، لأن تهميش أية فئة من الشعب الفلسطيني داخل أو خارج الوطن ستؤدي إلى تقويض الهوية الوطنية، كما أن التركيز على هدف الدولة، أو اختزال الشعب الفلسطيني بفلسطينيي الأرض المحتلة، يعني إزاحة سردية النكبة أو تغييبها بكل ما تحملها من معانٍ ودلالات وطنية وسياسية، لصالح سردية النكسة وما نشأ عنها من أطروحات لتسويات سياسية منتقصة.
أي عليها تصويب المسار الذي اتخذته السلطة حين همشت دور منظمة التحرير، بإعادة الاعتبار للمنظمة لما تمثله من كيانية سياسية جامعة وموحدة، ووطن معنوي لكل الشعب الفلسطيني.
كما يجب على الإستراتيجية الفلسطينية أن لا تفقد بوصلتها في سياق كفاحها لبناء الدولة المستقلة، بحيث تحافظ على طبيعة الصراع ضد إسرائيل بوصفها كيانيا استعماريا عنصريا معاديا للإنسانية، تأسس على أسطورة دينية، وفي نفس الوقت تواصل كفاحها لبناء المجتمع الفلسطيني وتنمية كيانه السياسي بكل متطلباته الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية.
وهذا يعني ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، وتطوير مكوناته الذاتية (المنظمة، والسلطة، والمجتمع المدني)، ويعني أيضا مواصلة الكفاح لتحرير الإنسان نفسه بالتزامن مع تحرير الأرض، وضرورة المزاوجة بين مفاهيم التحرير والحرية، وبين الحرية والعدالة، وبين الحرية والديمقراطية.
كما يجب الأخذ بعين الاعتبار أن أية إستراتيجية وطنية ستظل قاصرة ومعزولة عن محيطها الشعبي؛ ما لم تُشرك الجماهير الشعبية بها، وتولي اهتماما خاصا بالمرأة والشباب، وخاصة الطلبة، أولئك الذين باتوا يفكرون ويتصرفون بمعزل عن الكبار، بعد أن فقدوا ثقتهم بالمؤسسات الرسمية القائمة بكافة أشكالها ومسمياتها.