كم مرّة، على الرئيس الأميركي جو بايدن تحذير إسرائيل من تصعيد التوتر حتى لا تنزلق الأوضاع إلى حرب إقليمية، بل كم مرّة يصمت بايدن على الصفعات التي يتلقاها من بنيامين نتنياهو، الذي أفشل كل محاولات الإدارة الأميركية لتغيير طريقة إدارة الحرب، والتوصّل إلى صفقة تبادل؟
وكم مرّة خضعت إدارة بايدن لعمليات التصعيد المدروسة والمتعمّدة التي يبادر إليها نتنياهو، فاضطر إلى أن يقتفي أثره، ويؤمن له الحماية والدعم؟
في شهر نيسان نجحت الولايات المتحدة في احتواء التصعيد حين بادرت إيران بإطلاق نحو ثلاثمائة صاروخ ومسيّرة على إسرائيل رداً على القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، حينذاك، جنّدت الولايات المتحدة قدراتها ونفوذها السياسي والدبلوماسي لمحاصرة التصعيد، وجنّدت قدراتها العسكرية وتعاون حلفائها في المنطقة لتحجيم آثار ونتائج الضربة الإيرانية.
في هذه المرّة، بعد اغتيال الشهيدين فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية في بيروت، وإسماعيل هنية في العاصمة طهران، لم يعد بمقدور الولايات المتحدة أن تحجّم الردّ، ومنعه من أن يؤدّي إلى توسيع دائرة الحرب.
إسرائيل، وبينما تواصل إدارة بايدن إجراء الاتصالات وإرسال الرسائل لإيران و"حزب الله" اللبناني، من أجل منع انزلاق الأوضاع إلى حرب إقليمية، إسرائيل واصلت الاغتيالات في لبنان وسورية وغزّة.
عمليات الاغتيال الصعبة والخطيرة، التي وقعت، شكّلت انعطافة في سياق الحرب، حيث إنّها تجاوزت الخطوط الحمراء، وكسرت قواعد الاشتباك.
"حزب الله" أعلن على لسان أمينه العام حسن نصر الله أن الحرب انتقلت من دائرة الإسناد إلى دائرة المشاركة، فضلاً عن أن إيران أصبحت معنية بردّ حقيقي بعد أن تلقّت إهانات واستخفافات من قبل إسرائيل، التي تجاوزت كل الأعراف الدبلوماسية والقوانين الدولية.
الولايات المتحدة التي تبدو على علمٍ مسبق بعمليات الاغتيال اشتغلت على طريقة المثل الذي يقول: "صحيح لا تقسم، ومقسوم لا تأكل، وكل حتى تشبع".
قمّة السذاجة وقمّة الانحياز وتعبير صريح عن الشراكة من موقع التذيّل لنتنياهو وإسرائيل، حشدت كل قواتها في المنطقة واستقدمت أسرابا من الطائرات والمدمّرات، وأرسلت إلى شرق المتوسط حاملة الطائرات "أبراهام لينكولن" لردع إيران، و"حزب الله" في حال اندلعت وستندلع الحرب.
وبينما تتجاهل إدارة بايدن الصهيوني، مسؤولية إسرائيل عن إبادة أكثر من أربعين ألف شهيد، وما يزيد على تسعين ألف جريح فلسطيني، بالإضافة إلى استهداف المدنيين في جنوب لبنان والضفة الغربية، بينما تفعل ذلك، تبدي حرصاً على إسرائيل.
الولايات المتحدة حذّرت إيران، من مهاجمة مسؤولين أو دبلوماسيين إسرائيليين كبار في الشرق الأوسط وكذلك من الإضرار بالمناطق والمنشآت المدنية أو التجارية في الدولة العبرية سواء بشكل مباشر من قبل إيران أو من قبل وكلائها، على حدّ تعبير مسؤول أميركي.
أميركا تطالب إيران و"حزب الله" بأن يكتفوا بإلقاء الصواريخ والمسيّرات، في مناطق فارغة، حتى لا يتضرّر أحد، بينما تقدم كل الدعم لإسرائيل لكي تقتل دبلوماسيين، وتدمّر بنى تحتية، وتجوّع الناس وتعطّشهم، وتسمّم هواءهم في قطاع غزة، وفي غير مكان.
في تصريح فجّ ومغرور يدعو نتنياهو الولايات المتحدة لعدم التدخل في الشؤون الداخلية لإسرائيل، التي تحرص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية الأميركية.
مرّة أخرى يوجّه إهانة لشركائه في البيت الأبيض، بعد أن ادّعى في الكونغرس أنّه يدافع عن الولايات المتحدة.
هو لا يخجل حين يدّعي ذلك، ثم يستنجد بالولايات المتحدة وحلفائه الغربيين، للدفاع عن دولة الاحتلال أمام الضربات المتوقعة من إيران و"حزب الله"، وربما أطراف "محور المقاومة" الأخرى.
حكومة من المعاتيه والجناة، تدير حرباً لا أفق لها، ومن دون أهداف واضحة، جعلت إسرائيل كلها، تقف على قدمٍ واحدة، تحسّباً للردّ القادم.
استنفار كلّ الجيش والاحتياط والأجهزة الأمنية والشرطية، والمستشفيات، وفرق الإطفاء، وتوجيهات لتخزين المواد الغذائية، والبقاء بالقرب من الملاجئ، وتكدّس الغالبية العظمى من السكان في منطقة الوسط، وإقفال مصانع، ومؤسسات كل ذلك، جعل 9 ملايين إسرائيلي في سجن، بالإضافة إلى 115 مختطفاً في غزة، كما تقول مراسلة "يديعوت أحرونوت".
المراسلة كانت تقول إنه من الممكن التوصل إلى صفقة، تمنع نشوب حرب إقليمية، وتؤدّي إلى إطلاق سراح الملايين التسعة والأسرى لدى المقاومة في قطاع غزة.
وفي الحقيقة فإنّ نتنياهو ليس المعتوه الوحيد، وليس فقط سموتريتش وبن غفير، ولا حتى كل الائتلاف القائم الذي يدير دولة الاحتلال ويدفعها نحو الخراب والانهيار.
هذه الحكومة انتخبها المجتمع، وبالتالي هي تعبّر حقيقة عن ثقافة وطبيعة هذا المجتمع الذي يدعم أغلبية عمليات الاغتيال، ويحظى نتنياهو وحزبه في استطلاعات الرأي، بدعمٍ أكبر مع استمرار الحرب.
ثمة وزير "ليكودي" اسمه عميحاي شيكلي أطلق تصريحاً يقول فيه إن إسرائيل سحقت "حماس" وأعادتها إلى الوراء 30 عاماً. ربما يختبئ هذا الوزير وآخرون من أمثاله داخل أحد الملاجئ، من دون أن يعلم عن القصف الصاروخي المتكرّر على مدار يومين من جنوب قطاع غزة على المستوطنات في "الغلاف".
بعد عشرة أشهر، مفتوحة على المزيد من الوقت، والمزيد من التصعيد، ثمة ما يؤكد ما ظل يردده نتنياهو، من أن هذه الحرب هي حرب بقاء إسرائيل، وهي حرب تحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها.
لم تعد ثمة إمكانية للتوقف في وسط الطريق، والأمر في الأساس يعود إلى قيادة دولة الاحتلال، وشريكها الأساسي الولايات المتحدة، وبقية الحلفاء "الغربيين"، الذين تتعرض مصالحهم في المنطقة للخطر، ليس بسبب استهدافها من قبل المتخاذلين العرب وإنما بسبب انسياقها خلف حكومة عنصرية، احتلالية، وارتكابها مجازر إبادة جماعية.
ربما كان الأهمّ هو أنّ حلفاء دولة الاحتلال يشاركونها المسؤولية عن تدمير قيم الديمقراطية، والقوانين الدولية، والإطاحة بمؤسسات العدالة الدولية، وبهيبة ودور الأمم المتحدة، في الحفاظ على السلم العالمي.