اتسم زمن الثورة الفلسطينية الأول بسمات معينة وأفضى إلى نتائج معينة، وأقصد بالزمن حين كانت فصائل منظمة التحرير هي التي تتصدر (وتنفرد) بالعمل الفدائي ومقاومة الاحتلال عسكريا. وهذا الزمن ما زال مفتوحا، وإن اختلفت سماته وقسماته، بيد أنه اختلط وتداخل بزمن آخر جديد، تراجعت فيه فصائل المنظمة عن العمل العسكري المباشر، وتصدرت فيه حركتا حماس والجهاد المشهد بمآثرها البطولية، ولهذا الزمن الجديد سمات أخرى، وقد أفضى إلى نتائج أخرى.. لنترك موضوع النتائج جانبا، ولنسلط الضوء على السمات، وبالذات على جانب ترافُق العمل العسكري مع الفن والأدب والفكر والنشاط الإنساني.. وليس في نيتي إجراء أي مفاضلة أو مقارنة سوى طرح الظاهرة للدراسة والفهم.
في مراحل الثورة المبكرة ترافق مع العمل الفدائي: البوستر، واللوحة، والقصيدة، والرواية، والفيلم السينمائي، والأغنية، والكتاب، والمجلة.. منظومة متكاملة من الإبداع الإنساني كانت مهمتها بعث مقومات الهوية الوطنية، وإعادة إنتاج الإنسان الفلسطيني بروح ثورية بعد غسلها من آثار النكبة والهزيمة وتخليصها من ذل اللجوء، ولترسم للفلسطيني صورة جديدة مختلفة في المخيال العالمي.. كانت لوحات إسماعيل شموط وعبد الرحمن المزين، وكاريكاتير ناجي العلي، وقصص غسان كنفاني، وقصائد محمود درويش وسميح القاسم، وصور هاني جوهرية، ومجلة "فلسطين الثورة"، وفرقة العاشقين، والكتيبة الطلابية، وسخرية رصيف رسمي أبو علي، وفكر حنا ميخائيل وخالد الحسن، وتنظيرات منير شفيق وناجي علوش، والتيارات الفكرية المتنافسة.
اللوحات غدت أيقونات تذكّر بمحنة اللجوء والنكبة، والكاريكاتير صارت دروسا في النقد السياسي، والروايات تحرض على التمرد، والصور تنقل للعالم قضية فلسطين، والبوسترات تلخص الحكاية، والأطروحات الفكرية صارت المعين الذي تنهل منه الثورة، وأغنية "من سجن عكا" ظلت تذكرنا بظلم الانتداب وإعدام الأبطال الثلاثة.. في هذه الإبداعات كان العدو واضحا، والمطلوب أشد وضوحا.
أغاني "العاصفة" تحولت إلى أهازيج شعبية يرددها الصغير والكبير، وتغنيها النسوة في الأعراس، حتى باتت بمثابة ضمير الثورة، وعنوانا لأهم مراحلها التاريخية.
كلماتها بسيطة ومعبرة، نابعة من رحم المعاناة، متخففة من الأيديولوجيا، خالية من أي مديح للسلطان، كتبها شعراءٌ مناضلون، خرجوا من أزقة المخيمات، وعاشوا في الخنادق بين المقاتلين، وبألحانها الحماسية وأدائها الجماعي كانت تنفذ مباشرة إلى القلب، فتترك أثرا لا يُمحى. كانت الوجه الآخر للبندقية، ما جعل تأثيرها أقوى.
أغاني العاصفة هي التي جعلت الصوت الفلسطيني يتنفس بعد أن ظل حبيسا لسنوات طويلة، وحولته إلى صرخة حرة، وإلى إعلان سياسي يحمل كل معاني البلاغة والقوة، فجاءت أغنية "طل سلاحي من جراحي" بمثابة تدشين لعصر الكفاح المسلح، و"كلاشنكوف خلّي رصاصك في العالي" للإعلان عن رفض الذل والهزيمة. وكانت كلمات الأغاني محرضة: "فجّرلي قنبلتك في ليل حصارك"، أو تقوم بدور التعبئة الجماهيرية: "مدي يا ثورتنا" و"فدائية"، أو لضخ المعنويات في روح المقاتلين: "شدو زناد المرتينة"، أو لدعم الصمود والثبات في الأرض المحتلة: "أنا صامد"، و"يا جماهير الأرض المحتلة"، أو لدعم صمود الأسرى: "اسأل عنا عسقلان"، أو لتكريم الشهيد: "جابو الشهيد"، أو متابعة لحدث خاص ولكنه مهم، كما في أغنية "مؤامرة" التي عبرت عن رفض مشاريع التسوية.
كان لها وقع السحر على قلوب الجماهير، بتحويل الشعار إلى نص ملحَّن بكل عذوبة: "خذي دمي وهاتي انتصارات"، أو للدعوة لرفض الظلم واللجوء: "ارموا كروتة التموين"، أو للتغني بالبندقية: "روحنا عالقواعد"، و"حين يصيح البروقي"، وكانت أشبه بتعليق سياسي: "مش منّا أبداً مش منّا، اللي يساوم على موطنّا". أو لتقديم بيان سياسي متكامل: "فجّرنا الثورة في الخمسة وستين، ثورة طلاّب وعمّال وفلاحين"، "هذي الثورة عربية"، و"هذي الثورة للملايين، للّي شربوا الظلم سنين، للّي جاعوا للّي ضاعوا للّي عريوا للّي التاعو، لليتامى للثكالى، للّي بسوق الظلم انباعوا". أو تحث على الوحدة الوطنية وتحكي بلسان الجميع: "فدائية وكل الجماهير فدائية".
كُتبت بالعامية، لتكون أقرب لنبض الشارع، وبعضها كُتب بالفصحى، لكن دون أن تفقد بساطتها؛ مثلا: "أنا يا أخي، آمنتُ بالشعب المضيّع والمكبّلْ، وأغنية: "إليكَ نجيءُ يا وطني"، التي صارت نشيداً يجمع بين سحر الشعر وروعة النغم، وأغنية: "إنني عدت من الموت لأحيا وأغنّي"، التي جعلت من المقاومة الشكل الجميل والصعب للحياة نفسها، وأعلت من شأن الحياة وقدسيتها.
كانت فعلا إنسانيا راقيا، صقلت نفسية المحارب، وارتقت بها، ونقتها من الشوائب، وخلصتها من نزعات الانتقام والعنف المجرد، لتؤكد أنَّ الثورة ليست فقط بندقية ومقاتلا، بقدر ما هي أغنية وقصيدة ولوحة وإبداع إنساني تدعو للتمسك بالحياة الحرة الكريمة، ومحاربة العنصرية والاحتلال والظلم، وبذلك أبرزت الجانب التقدمي الإنساني المشرق للثورة، الذي طالما حاول الإعلام الصهيوني طمسه وتشويهه.
أغنية "لينا كانت طفلة" للرائع أحمد قعبور خلدت ذكرى الشهيدة لينا النابلسي، أما أغنية "اشهد يا عالم علينا وعَ بيروت" للشاعر أحمد دحبور، فقد خلدت ملحمة الصمود في بيروت، كما فعلت قصيدة "مديح الظل العالي" لمحمود درويش.
اليوم، وفي ظل الحرب العدوانية المستمرة منذ عشرة أشهر على غزة، ورغم أنها فاقت بتضحياتها ومآثرها ومآسيها كل المراحل السابقة.. ومع ذلك، وبكل أسف لم يترافق مع هذه الملحمة والمذبحة المفتوحة أي عمل فني؛ لا أغنية، ولا نشيد، ولا قصيدة، ولا بوستر، ولا نص أدبي، ولا نظرية فكرية جريئة، أو مفكر شجاع هزته الصدمة، ولا كتاب يوضح ما التبس على الناس، ويبدد ما افترقوا عليه من وجهات نظر متناحرة.
طبعا، مثل أمور كهذه غير مطلوبة من أهل غزة، فهؤلاء بالكاد قادرون على تدبير أبسط متطلبات الحياة.
رغم التطور المذهل في التقنيات إلا أن ما أُنتج عبارة عن منظومة متكاملة من الوعي الزائف المغلف بالشعارات الكبيرة، وبعض الأناشيد النواحية الكربلائية والتي لا تختلف عن اللطميات، وتهويمات "الدويري" وشطحات "تميم"، والكثير من المقالات الإنشائية الفارغة من أي مضمون، والتي تزيد من حالة الارتباك وتعمق من حالة تشوه الوعي الوطني والإنساني.
عندما وجهت هذه التساؤلات لشاعر مهم أجاب: سابقا كان الفلسطيني مفعماً بالأمل، حاليا تطغى عليه مشاعر الخذلان والقهر واليأس، وهذه المشاعر السلبية لا تنتج أدبا ولا فكرا ولا فنا يعتد به.. وأرجو أن يكون شاعرنا مخط