لم يكن يدور في خلدي أني سأكتب في رثاء الأخ أبو العبد هنية؛ فما زال يصغرني بكثير، وهو شخصية (محبوبة) وليس له كثير من الأعداء.
أصابت عملية الاغتيال في طهران الجميعَ بالصدمة والذهول، فكانت الجنازة المهيبة من إيران إلى قطر، حيث مواراة جثمانه الطاهر بين الآلاف من إخوانه في حركة حماس وأنصار الحركة الإسلامية الشيعية والسُنيِّة وداعمي قضية فلسطين.. جاءت عملية اغتيال أبو العبد هنية استكمالاً لمسلسل "التغريبة الفلسطينية" بكل ما تمثله من مظلومية وأحزان.
تقديم
إنَّ ما نكتبه هنا مجرد صفحات من الذاكرة لخمس سنوات كانت تجمعنا فيها –بشكل شبه يومي- لقاءات ونقاشات ومداولات مكتب مجلس الوزراء.. هذه السطور هي نبض قلب لتلك السنوات.
لم أكن أعرف الأخ الشهيد إسماعيل هنية (أبو العبد) قبل الانتخابات التشريعية في يناير 2006، وإن كانت خطاباته المتلفزة خلال الحملة الانتخابية تلفت الأنظار، إذ كان يملك حَنجرة قوية، ومهارات عالية على مستوى خطاب الجماهير، في وقت كانت فيه المنابر هي أهم الساحات للتعريف بالشخصيات وإبراز مكانتها في المشهد الانتخابي ومدى تعلق الجماهير بها، وخاصة في الأوساط الإسلامية، حيث تلعب الكاريزما وبلاغة الخطاب الحماسي مكانة متقدمة، مع شيء من التزكية التنظيمية، والتي تقررها مجموعة من (أهل الحل والعقد) أو ما يطلق عليهم بالمصطلح السياسي (الدولة العميقة)، وهم ما يجري التوافق بينهم -غالباً- على ترجيح كفة من سيرسو عليه العطاء في اختيار الشخص القائد أو من سيتصدر مكانة الرجل الأول في الحركة أو الحكومة.
في يناير 2006، كان فوز حركة حماس في الانتخابات بالأغلبية المطلقة مفاجأةً غير متوقعة، إذ كانت التوقعات واستطلاعات الرأي تمنح الحركة 40% أو أكثر من ذلك أو أقل بقليل.
خلال سنوات إقامتي الطويلة في أمريكا لقرابة العقدين من الزمن، تخللها عودة إلى قطاع غزة لمدة عام ونصف العام، كانت كافية للتعرف على جيل الانتفاضة والكثير من قياداتها الإسلامية بما في ذلك من تولوا زمام القيادة والسيطرة في الضفة الغربية.
في تلك الفترة من ديسمبر1987، شهدت بدايات الانتفاضة وفعالياتها النضالية حتى مايو 1989، لم يتنسَّ لي رؤية أبو العبد هنية، رغم زيارتي المتكررة للشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) في بيته واللقاء بعدد كبير من الشخصيات القيادية مثل: د. إبراهيم المقادمة والمهندس إسماعيل أبو شنب والشيخ صلاح شحادة والمهندس عماد العلمي وآخرين.
غادرت القطاع بسبب إغلاق الجامعة الإسلامية التي كان من المفترض أن أكون أحد طاقمها التدريسي، عائداً إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسة الدكتوراة.
وفي منتصف 2004، ارتحلت عن أمريكا للإقامة بالجزائر، حيث تسنى لي متابعة أوضاع وفعاليات الانتفاضة الفلسطينية من الجزائر وما قدمته ساحتها من عطاءات بلا حدود للفلسطينيين، كما كانت دائماً في مواقفها التي جسّدتها مقولتها الشعبية الشهيرة "نحن مع فلسطين؛ ظالمة أو مظلومة".
وكان اللقاء الأول في القاهرة
مع هذا الفوز الكبير لحركة حماس في الانتخابات التشريعية وتكليفها بتشكيل الحكومة العاشرة، قررت العودة إلى غزة، إذ لم يعد هناك ما يمنع بعد انسحاب قوات الاحتلال عقب توقيع اتفاقية أوسلو في أغسطس 1993، وإن مهمتي في الداخل كأستاذ علوم سياسية أصبحت ذات قيمة كبيرة لطبيعة الدراسة وعمق الوعي بالتجربة السياسية الغربية.
وبناءً على ذلك، شددت الرحال إلى القاهرة في الوقت الذي كانت فيه الحركة تدرس تشكيل الحكومة والشخصيات المناسبة لكلِّ منصب.. كان الاجتماع التنظيمي في فندق ماريوت بمصر الجديدة لمدة يومين، حيث كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بالأخ إسماعيل هنية، أما باقي قيادات الداخل والخارج فقد كانت وجوهها ومواقفها ومكانتها التنظيمية مألوفة لدي.
في الحقيقة، لم أكن أطمح في أي منصب حكومي ولم تكن الحكومة غاية مقصدي، إذ كنت أجد متعةً أكثر في التدريس الجامعي، كما كنت وجهاً إعلامياً أعبر عن وجهة نظري وأفكاري بحرية كاملة كشخصية إسلامية لها تجربة خاصة (منفتحة على الكلِّ الفلسطيني).
عرض عليَّ الأخ الشهيد في ذلك اللقاء أن أعمل معه مستشاراً سياسياً وأن أكون بجانبه في مجلس الوزراء، فمرحلة الحكم تتطلب أن يكون شخص مثلي إلى جانبه يقدم له الرأي والمشورة.
ونظراً للطريقة التي تربينا عليها في الحركة الإسلامية، كانت "المناصب تكليف لا تشريف"، وبالتالي فالقبول أو الرفض ليس من شيم الجنود ولو كانوا في بزِّة القادة.
قبلت التكليف مع تشجيع لشخصيات من قيادات الصف الأول؛ كالأخ د. موسى أبو مرزوق وربما الأخ خالد مشعل، وهما من زعامات حماس التي لها كلّ التاريخ والتقدير والاحترام.
كانت علاقتي بالأخ أبو العبد هنية صفحة جديدة في حياتي، من حيث الممارسة والتجربة والفكر والرؤية السياسية، وطبيعة الكاريزما والعلاقات الفصائلية والاجتماعية العامة، التي امتلك الأخ الشهيد الكثير منها، حتى إنك لتجده صديقاً للجميع، وهو في غالب الوقت هادئ ويسمع ويحاور ويصادق، وكان للجميع وخاصة من الإسلاميين "أخٌ لم تلده أمه".
كانت بداية الارتياح في العلاقة بيننا أننا لم نكن بعيدين عن بعضنا البعض، وكنا محسوبين -بشكل عام- على التيار الإصلاحي المعتدل في الحركة الإسلامية، وكان لسنوات الدراسة والعمل الطويل في أمريكا، وخاصة في العاصمة واشنطن، قد علمتني أصول الديبلوماسية والإتيكيت ولغة الانفتاح والسياسة، كما أسهمت اللغة الإنجليزية في تطوير القدرة على التواصل والتفاهم والتوسع بإجراء الكثير من اللقاءات مع السفراء والقناصل وممثلي الإتحاد الأوروبي لدى السلطة الفلسطينية، وما خرجت به من تقييمات أنصفت حكومة هنية العاشرة ووصفها بالمعتدلة، وتجنيبها اتهامات التطرف والإرهاب؛ سواءً على سبيل الفكر أو الممارسة.
منذ البداية، ومن لحظة خطاب العرش أو الحكومة الذي ألقاه أبو العبد هنية في المجلس التشريعي، والذي كان لي جهد متقدم في صياغته آنذاك، ومع تعيين د. غازي حمد كناطق إعلامي باسم الحكومة، أصبح الثنائي د. أحمد يوسف؛ المستشار السياسي، ومعه الناطق الإعلامي د. غازي حمد، أكثر الشخصيات التي أعطت حيوية للخطابين السياسي والإعلامي لحركة حماس، وخاصة أن د. حمد كان يجيد التحدث باللغة العبرية أيضاً.
لقد كانت تجمعني بالأخ غازي حمد بعض القرابة، وكان هو على دراية بشخصية الأخ أبو العبد هنية أكثر مني، وكنا فيما بيننا خير معين وسند وناصح أمين له في قراراته كرئيس للوزراء، فيما كانت علاقتي بالأخ أبو حسن شمعة وطيدة منذ سنوات السبعينيات وهو ما عاظم الثقة بيننا وبين أبو العبد هنية. وإذا كان هناك من صاحب فضل في اختيار إسماعيل هنية لمنصب رئيس الوزراء، فقد تمَّ ذلك بجهد استثنائي بذل فيه الأخ أبو حسن شمعه من موقعه التنظيمي الأعلى بالحركة كلَّ ما يضمن وصول أبو العبد هنية لسدِّة الحكم.
كان العالم الغربي وخاصة الأوروبي مهتماً بمعرفة حركة حماس، فكانت الوفود لا تنقطع وتحرص بشكل دائم لترتيب جلسات لقاءٍ برئيس الوزراء، وكانت مهمتي هي اقناع الأخ أبو العبد هنية بأهمية إجراء مثل هذه الجلسات السياسية مع الوفود الأجنبية، والحرص كذلك على عمل لقاءات إعلامية مع الصحافة الغربية لتوصيل رسائل سياسية واغتنام الفرصة كلما اتيحت لدحض ادعاءات إسرائيل، وتفنيد اتهاماتها التي تحاول فيها إلباس الحركة والحكومة ثوب الشيطان، عبر اتهاماتها المتكررة بالتطرف والإرهاب! كان للدكتور غازي جهد متميز هو الآخر بالمشاركة في إعداد أجندة نقاط الحوار الإعلامي، لتوضيح موقف الحكومة وخطابها وتوجهاتها السياسية.
كان أبو العبد هنية بابتسامته اللطيفة مع الجميع، وبلغته الواضحة والبليغة قادر على إيصال رسالته بدرجة كبيرة لهؤلاء الإعلاميين.. وعلى هامش تلك اللقاءات، كنت (أنا وغازي) نقوم بالرد على المزيد من استفسارات واستيضاحات هؤلاء الإعلاميين..
كان أبو العبد هنية ذا طلَّةٍ مريحة ووجهٍ إعلاميٍّ محبوب، وكانت تلك الفترة تسمح حتى بإجراء لقاءات مع صحفيين إسرائيليين لم يمانع في إجرائها، أمثال: يوني بن مناحم وآفي زخاروف وآخرين.
كانت تصريحات هنية أحياناً تستفز بعض المتشددين في الحركة، ممن خانهم الإدراك بأن العمل السياسي يتطلب الكثير من المرونة والذكاء السياسي مع ضرورة الابتعاد عن لغة التطرف الإرهاب.
من جهتي كمستشار سياسي، أشهد أن الأخ أبو العبد كان "بياخد وبيعطي" وفيه سماحة الخطاب، وطيبة ابن المخيم، ولم أعهده يلجّ في الخصومة أو يبحث عن الخلاف، حتى في السنوات التي سبقت مشاركة حماس في الانتخابات كانت تجمعه بالنائب محمد دحلان وسمير المشهراوي صداقات ولقاءات.
بعد تشكيل حكومة هنية في يناير 2006 ووقوع الانقسام في يونيو 2007، تشظي المشهد السياسي والفصائلي ولجَّت الساحة بالعداوات، إلا أنَّ دحلان الذي كان -آنذاك- خارج البلاد للعلاج، ظل حريصاً على "شعرة معاوية" مع حركة حماس من حيث التقارب والتواصل، ولعله دحلان القيادي الفتحاوي كان من بين من بذلوا الكثير لإنجاح (اتفاق مكة) للمصالحة الفلسطينية، والتمهيد لتشكيل حكومة الوحدة الحادية عشرة.
كان الأخ أبو العبد هنية دائم الحرص على رأب الصدع ولم يترك فرصة إلا وحاول اقتناصها، لكن التركيبة السياسية الفلسطينية كانت على عوج في أصولها. لذا، كانت كلُّ محاولات "تصويب الظل واستقامته" عملية عبثية لا طائل من وراءها.
اعتدال وسط ضجيج صاخب
كان العديد من المتشددين في الحركة لا يروق لهم خطاب السياسة الذي كنت أتحدث به لوسائل الإعلام الغربية، ويطيلون الشكوى للأخ أبو العبد هنية، وقد استفزهم ما كان يُكتب عني في الصحافة الغربية والعبرية والعربية مثل: (الوجه الباسم لحماس)، (ووجه الاعتدال الحمساوي).. وما كتبه أحد الصحفيين الإسرائيليين بالقول: "الأمريكي الذي يهمس في أذن هنية"، في إشارة إلى أنَّ الخطاب السياسي الذي يتطرق له رئيس الوزراء يعود في الكثير من مضامينه إلى مستشاره السياسي وليس من بنات أفكاره!
ومن هنا، بدأت الاتهامات والتحريض؛ باعتبار أن د. أحمد يوسف يغرد خارج السرب! ويتوجب وقفُه عند حده؛ أي أن ما يخرج عني من تصريحات سياسية أو لقاءات إعلامية لا تمثل الحركة، بل هي خارج النص الذي اعتادت عليه الحركة في لغة الدين والسياسة أو المنطوق الذي بدأ البعض في الحكومة التمرس عليه، استجابة لمرحلة العمل السياسي بما فيها من قواسم مشتركة وتداول سلمي للسلطة وتقاسم وظيفي وتحالفات حزبية، ومن بين هؤلاء الأخ أبو العبد هنية.
في سياق الرأي والمستورة، توافقت والأخ رئيس الوزراء على تقديم رؤية سياسية للتعريف بالحكومة التي شكَّلتها حركة المقاومة الإسلامية، وكانت بعنوان: "الحقيقة بخصوص حماس"، وكانت أشبه بالمانفيستو، لا يمنح إسرائيل القدرة على شيطنة الحركة أو النجاح في قطع الطريق أمام تواصلها مع العالم، باستخدام لغة سياسة حمَّالة أوجه، تجنبنا خطاب الاتهام بالتطرف والإرهاب.. كان الرجل يضع ثقة عالية باجتهاداتي؛ كوني في الخارج لسنوات طويلة عاملاً إلى جانب القيادة التاريخية في الخارج، وما أمتلكه على حسابات جيل التأسيس والسُلَّم القيادي والدرجات العلمية العليا والمعرفة الواسعة بالعالمين الغربي والعربي والإسلامي خلال سنوات الدراسة والاغتراب والزيارة لأكثر من أربعين دولة غطت معظم سنوات النضوج ككادر وقيادي في الحركة الإسلامية في الداخل والخارج.
لا شك أن أبو العبد هنية كان يهمس لي أن الإخوة في قيادة الحركة غير مرتاحين لبعض ما أجهر به من القول أو ما كان يصدر عني من تصريحات إعلامية، فكنت أوضح له موقفي فلا يُعلِّق كثيراً، وكأنه يقول لي: "حتى وإن كنت أشاطرك الرأي، إلا أن هذا ما يقوله عنك إخوانك".
في كل جولاتي الأوروبية، وما كنت أعود به من أفكار واتصالات وعلاقات لم أشهد عليه اعتراضاً بل تشجيعاً بأهمية وضع صورة هذه التحركات مع قيادة الحركة بالخارج، وكان هو بدوره دائم التشاور معهم، وهذا ما كنا نفعله معاً. فعندما عرضت علينا الخارجية السويسرية وثيقة لحل الصراع سياسياً وتداولتها مع قيادة الخارج، وجرى نقاشها ومباركة فكرة الحل على أساس الهدنة، وبدأنا العمل على ما نراه مناسباً من المشاورات على مستوى الحركة، قام الأخ أبو العبد هنية بتسليم الوثيقة (وثيقة جنيف) للرئيس أبو مازن، والذي وجد وكأنَّ الأمور تجري من تحت أقدامه، وهو تجاوز لصلاحياته، مما حمله على القيام بحملة من التشهير بالوثيقة وأخد بمحاربتها والتحريض عليها ونعتها بوثيقة (الدولة ذات الحدود المؤقتة)، مما عجَّل بتصعيد الخلاف معه والوقوع في شرك الانقسام والتشظي الوطني.
ولذلك، لم نستغرب استجابة الأخ أبو العبد الدائمة للوسطاء على مدار سنوات الخصومة والشقاق، ولعل اللقاء الأخير في الصين كان هو الأهم حيث شارك فيه وما زال العمل بمخرجاته.
الابتعاد عن صفحات الخصومة
لم أعرف عن الأخ أبو العبد هنية عداوة الطبع لأحد حتى ولا للخصومة السياسية، لم أعرف عنه إساءة للرئيس أبو مازن والنائب محمد دحلان وكانت تجمعه بهما صداقات سبقت الحكومة، وتعود لسنوات الشيبة والعمل الطلابي الجامعي، لم يكن دحلان في مشهدية الحكومة العاشرة بعيداً عن علاقة الصداقة مع الأخ أبو العبد هنية، وقد شاهدت ذلك في بعض لقاءات هنية مع الرئيس أبو مازن وكان دحلان في مقر الرئاسة، وكان الحديث بين الاثنين فيه من التقدير والاحترام ما يخص علاقات الماضي وحاضر الحكومة.
لقد كانت علاقاتي بمحمد دحلان تسبق الحكومة واستمرت بعد الحكومة والانقسام، وكنت أنقل للأخ هنية ما كنت أتبادله معه من وجهات نظر، وما يطرحه من أفكار لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، وكان يُثني على هذا الجهد.
ولعل من نافلة القول: أنَّ الأخ أبو العبد هنية قد نجح في كسب الصف القيادي في الحركة إلى جانبه، وهو يملك في ذلك مهارات وكاريزما فريدة، مكنته من الحفاظ على مشهد القيادة كلّ هذه السنوات؛ سواءً كرئيس للوزراء في الحكومة العاشرة أو الحادية عشر (الوحدة الوطنية)، ثم كرئيس لحركة حماس في الداخل ولمكتبها السياسي على مستوى الداخل والخارج.
كان للدكتور موسى أبو مرزوق وللأخ خالد مشعل فضل التأسيس والقيادة والأهلية الحركية والسياسية لأكثر من عقدين من الزمن، بلغت فيهما حركة حماس مع سنوات حكمها مكانة لم تصل إليها سابقاً إلَّا حركة فتح وزعيمها التاريخي ياسر عرفات (رحمة الله)، والذي اغتالته إسرائيل بالسُم عام 2004، مما تسبب في إضعاف قدرات الفعل الفلسطيني، وتشظي خارطة النضال المقاوم للاحتلال.
كلمة وفاء..
لا يختلف اثنان أنَّ أبو العبد هنية كان شخصيةً وحدوية.. وبالرغم من تعثر وإخفاق كلّ محاولات التوافق والمصالحة الوطنية إلا أنَّ التاريخ سيكتب وشهوده كذلك ممن عايشوا فترة قيادة أبو العبد هنية ومكانته كرئيس للوزراء، أن هناك الكثير (مما له وما عليه).. وأنا في محطة الوداع الأخيرة هذه، لا يمكنني إلا تجلية ما كان عليه من الفضائل في سياق أحاسنكم أخلاقاً، وترك اجتهادات السياسة -بعجرها وبجرها- إلى مناسبة أخرى؛ لأن هناك كلام كثير ستتطرق له الأقلام غير "محاسن الموتى".
كان أبو العبد هنية على مستوى العلاقات الاجتماعية والفصائلية وروح الوحدة الوطنية لا يشق له غبار، وعلى مستوى العلاقات الإسلامية وقيادات الإسلام السياسي، توسعت هذه العلاقات باعتبار تجربة حماس السياسية كأول نموذج يصل فيه الإسلاميون بشعاراتهم وعبر عملية انتخابية نزيهة إلى الحكم.
وشهدت هذه التجربة تعاطفا ًكبيراً في مشهدية الإسلاميين الطامحين للحكم وأشاد بهذه التجربة كبار علماء ودعاء الحركة الإسلامية حول العالم، وتعاهدوا ذكرها والاشادة بها كثيراً ،وخاصة في فترة الربيع العربي، حيث فتحت عدة عواصم أبوابها لاستقبال أبو العبد هنية وإجراء لقاءاتٍ جماهيرية وحوارات متلفزة معه، مع استقبال رسمي كما شاهدنا في مصر وتونس ولاحقا في الجزائر ولبنان وقطر وتركيا وإيران، بل إن الشيخ يوسف القرضاوي (رحمه الله)؛ رئيس اتحاد علماء المسلمين، جاء في وفد إلى زيارة غزة لمباركة تصدر هنية وحركة حماس مشهد الحكم والسياسة، وكانت أيضا زيارة سمو الشيخ حمد آل ثاني هي محطة مهمة في العلاقة مع الدول العربية.
لقد خدم خطاب أبو العبد هنية المنفتح والبعيد عن لغة التشدد الانطباع العام عن الحركة، حتى في الغرب، ولكن (الفلتان الخطابي) الذي جرى على ألسنة بعض القيادات سهَّل مهمة ا(لشيطنة) التي قامت بها إسرائيل لدمغ الحركة والحكومة بالتطرف والإرهاب، ورغم دلالة القضية الفلسطينية، إلا أن صراعاتنا الداخلية استنبتت من هذه الخصومة والخلاف ما عمق الطرح، وجعل مظلوميتنا كشعب محتل هواناً على الدول والمجتمعات الغربية.
وفي السياق السياسي، سيظل الانقسام الفلسطيني الذي شهده عهد قيادة أبو العبد هنية في الحكومة والحركة ولقرابة العقدين من الزمن، فشلت فيه كلُّ محاولات رأب الصدع، وهذه نقطة ليست لصالح هذا التاريخ من العلاقات الفلسطينية -الفلسطينية، بغض النظر عن المواقف والتحليلات وأصابع الاتهام التي توجه هناك وهناك.
رحم الله الأخ الشهيد أبو العبد هنية، وتقبله في الصالحين وألحقنا به صالحين.