لوهلة يبدو أن عنوان المقال مربك لبعض المتابعين الذين يعتقدون أن الحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة هي ضد حركة "حماس" فقط، في حين أن الحرب تستهدف الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وتحديداً في الضفة الغربية وغزة.
هناك مئات الشواهد التي تؤكد أن الاحتلال يتعمد استهداف المواطنين والمدنيين العزل في قطاع غزة، سواء في المناطق غير الآمنة أو ما سوّقته إسرائيل للعالم بأنه مناطق آمنة وهي في حقيقة الأمر مناطق معرضة أغلب الوقت للقصف العشوائي.
يومياً نسمع عن استشهاد عشرات الأطفال والنساء في منازلهم أو في الخيام التي تأويهم، أو حتى في مدارس تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" التي يفترض أنها تمتلك حصانة دولية ضد الاستهداف، والعالم لا يزال يقف متفرجاً على الجرائم الإسرائيلية دون رقيب أو حسيب.
أعداد الشهداء وصلت نحو 40 ألف شهيد، وفي كل يوم يقع المزيد من ضحايا التوغلات الإسرائيلية الجديدة والقصف العشوائي، إلى درجة أنه لا يوجد في كل غزة منطقة آمنة، على الرغم من أن المجتمع الدولي دعا إسرائيل إلى ضبط النفس ووقف استهداف المدنيين الفلسطينيين.
واهمٌ تماماً كل من يعتقد أن الحرب هي ضد "حماس"، وفقط يجري توظيف استهداف الحركة في تمرير سياسة إسرائيلية ترمي إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني في الثبات والنضال والمطالبة بحقوقه العادلة، وكذلك محاولة ترهيب وتخويف الناس لدفعهم نحو الرحيل الطوعي والقسري عن غزة.
دائماً ما تتوفر الذرائع والتبريرات الواهية مع كل مجزرة يرتكبها الاحتلال، سواء بتسويق أن قتل مئات المدنيين في المناطق الآمنة جاء بسبب استهداف قيادات ميدانية "حمساوية"، أو قصف مواقع عسكرية تابعة للحركة في بعض المدارس التي تؤوي نازحين أو مستشفيات يتكدس فيها شهداء ومصابون ونازحون من الاعتداءات الإسرائيلية.
إسرائيل تريد أن تظل متفوقة ديموغرافياً في فلسطين التاريخية، وهي بحاجة إلى تسهيل عمليات الهجرة إليها مقابل اختلاق حروب في الضفة وغزة من أجل تهجير الفلسطينيين وإحداث فرق كبير في موازين القوى الديموغرافية تحسب لصالحها.
حسب دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، يعيش حوالى 7.2 مليون إسرائيلي في إسرائيل، مقابل حوالى 5.5 مليون فلسطيني يعيشون في غزة والضفة استناداً إلى بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني نهاية العام 2023، فضلاً عن 1.75 مليون في أراضي 1948، ما يعني بالمجموع 7.3 مليون فلسطيني.
الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة والضفة هي حرب وجودية، تسعى عبرها إلى وأد أي مقترحات تتصل بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، وتشتيت الشعب الفلسطيني وإفقاره وجعله غير قادر على ممارسة حقه في تقرير مصيره.
ثمة مؤشرات واضحة أن إسرائيل معنية بإشعال الحرب مع الفلسطينيين حتى لا يطالبوا بحقوقهم المشروعة، وواحد من أهم المؤشرات أن حكومة بنيامين نتنياهو فتحت النار على السلطة الفلسطينية التي ظل رئيسها محمود عباس ينادي بالسلام ورفض المقاومة المسلحة.
لم يكف الرئيس عباس عن استخدام مصطلح "السلام خيار إستراتيجي" ويرفض سياسة العنف والعنف المضاد، ومع ذلك كانت تقابله إسرائيل بتوسيع المستوطنات وابتلاع آلاف الدونمات في الضفة الغربية، واعتبار السلطة جزءاً من المشكلة وليس الحل.
حتى في مسألة ما يسمّى اليوم التالي للحرب، رفض رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الإقرار للسلطة الفلسطينية بمسؤولياتها في إدارة قطاع غزة، ويحاول شيطنتها كل الوقت، وراح يبحث عن بدائل أخرى لا تكون فيها السلطة الفلسطينية جزءاً من مستقبل غزة.
إذا رفضت الدولة العبرية التعاون مع السلطة الفلسطينية وسعت إلى تقليص نفوذها في الضفة وإضعافها وإفشال حكمها، فهذا أهم دليل على أن إسرائيل نتنياهو غير معنية بالسلام لا من قريب ولا من بعيد، وأن مشكلتها ومعركتها الأساسية مع الشعب الفلسطيني بكل أطيافه.
غزة بلحمها ودمها وجرحها النازف أثبتت للعالم أن الفلسطيني معرّض للخطر حتى لو كان في زنازين الاحتلال، وأن أجندة إسرائيل واضحة ولها بُعدان، الأول سياسي تريد منه وجود سلطة حكم ذاتي في الضفة وغزة تعمل على نظام السمع والطاعة لها. نعم تريد إسرائيل سلطة غير السلطة الفلسطينية لا تسأل عن مصير الدولة الفلسطينية المستقلة وتقبل بيهودية الدولة، وتقف حارساً يضمن تحقيق متطلباتها الأمنية.
البعد الثاني ديموغرافي جغرافي يستهدف إيجاد فجوة كبيرة في ميزان القوة السكاني لصالح الدولة العبرية بما يبعد عنها الخطر الوجودي، ومعه مظلة جغرافية تضمن توزيع اليهود والمستوطنين في عشوائيات تكبل وتطوق ما تسمى سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية.
إسرائيل وهي ترسم ملامح هذه الحرب، ترى في حركة "حماس" عنواناً لهذا العدوان التكتيكي، لكنها تستهدف بشكل أعمق وإستراتيجي تلك المرأة الصامدة الولّادة، وذلك الطفل المجبول على حب الوطن، والشاب الذي يرفض الاحتلال ويسعى للانعتاق من جبروته وظلمه المستبد، والشيخ الذي يحلم بحق العودة ويختصره بمفتاح منزله.. نعم إسرائيل تخاف حتى من الجنين في رحم أمه.
المخاوف مشروعة، لكن مشاريع التفتيت ليست قَدَراً
12 ديسمبر 2024