شكل إعلان الرئيس أبو مازن عن استعداده والقيادة الفلسطينية للتوجه إلى غزة خطوة فلسطينية ضرورية من أجل التفكير في مستقبل قطاع غزة. وفي الوقت الذي كانت فيه القوى المختلفة تذهب لجولة جديدة من مفاوضات الهدنة فإن تصريح الرئيس أبو مازن جاء ليعزز الموقف الفلسطيني بأن الخلاف الفلسطيني الداخلي لم يعد مهماً وهو إلى زوال، وأن مستقبل قطاع غزة لا تفكر فيه السلطة من وجهة نظر إسرائيلية ضمن تصورات اليوم التالي. بل إن استعداده للذهاب لغزة لم يرتبط بأي موقف إسرائيلي أو تصورات مشتركة أو فردية لليوم التالي بقدر ارتباطه برغبة حقيقية نابعة من إحساس وطني بالمسؤولية وضرورة التحرك من أجل وضع حد لتدهور الأوضاع في غزة نتيجة حرب الإبادة.
وعليه فإن تصريح الرئيس جاء من أجل خدمة المصالح التفاوضية الفلسطينية في القول إن إدارة قطاع غزة ليست موضع نقاش مع الإسرائيليين بقدر أنها موضوع فلسطيني خاص. وهذا يتطلب فتح نقاش فلسطيني داخلي عن مستقبل العلاقات الوطنية وحول إدارة قطاع غزة. وفيما تظل الأسئلة الكبرى حول منظمة التحرير وحكومة الوحدة وغير ذلك إلا أنها ليست أمراً ملحاً الآن بقدر البحث المشترك عن سبل التخفيف عن شعبنا من خلال إيجاد آلية وطنية لتقديم الخدمات في غزة تحت مظلة الرئيس أو الحكومة أو اللجنة التنفيذية من أجل وضع اللبنات الأساسية لاستعادة وحدة المؤسسات.
إن شعباً تحت النيران لا يفكر في نماذج اليوم التالي. ففكرة اليوم التالي بدعة إسرائيلية صرفة وعليه فإن مقترح الرئيس وفكرته حول التوجه لغزة هي قطع للطريق أمام التصورات الإسرائيلية.
ومع ذلك لا يبدو الطرق إلى غزة سهلاً، والمؤكد أنه مليء بالكثير من العقبات ولعل أبرزها الرفض الإسرائيلي لأي دور للسلطة الفلسطينية في إدارة شؤون قطاع غزة بعد الحرب، لأن آخر شيء تريد إسرائيل أن تراه هو إحياء مشروع الدولة الفلسطينية في مناطق العام 1967 رغم أنني من أولئك الذين يقولون إن هذه الفكرة بحاجة لإعادة نظر من قبل الفلسطينيين لأن إسرائيل لم يكن لها هم طوال عقود عملية السلام إلا جعلها فكرة مستحيلة وغير قابلة للتطبيق. ومع ذلك فإن عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة وإدارتها لشؤون هذا القطاع ضمن إدارة فلسطينية شاملة للضفة والقطاع سيشكل إحياء لفكرة الدولة الفلسطينية وبالتالي الضغط باتجاه حل الدولتين الذي يعني ليس فقط بالنسبة لليمين الصهيوني بل للمركز ولبعض أطراف اليسار نهاية المشروع الصهيوني القائم على ابتلاع الأراضي الفلسطينية ونفي الفلسطينيين خارج بلادهم.
بالطبع نتنياهو لا يريد أن يصحو من النوم ليجد العالم يضغط باتجاه تجسيد هذه الدولة، ما لم يكن ممكناً بشكل كبير سابقاً في ظل الانقسام الفلسطيني الذي لا يمكن تبرئة إسرائيل من استدامته وتغذيته من أجل منع أي وحدة فلسطينية داخلية. الآن وإذا عادت السلطة لغزة فإن الكثير من ذرائع نتنياهو أو من سيخلفه ستكون نزعت.
هذا لا يعني أن إسرائيل ستجد نفسها مجبرة على العودة للحل السلمي إذ إنها ستبرع في جعل أي مفاوضات مستقبلية كابوساً آخر للفلسطينيين ولكن هذا سيعني المزيد من خسائرها على الساحة الدولية. وإن جل ما يمكن للفلسطينيين أن يقوموا به بجانب التمسك ببلادهم والبقاء في الأرض والصراع اليومي من أجل الحياة ومعطياتها ومكتسباتها هو النضال من أجل تعرية الرواية الإسرائيلية، والتركيز على الحقيقة التي باتت أكثر قبولاً في العالم أن إسرائيل دولة مارقة وهي فوق القانون ولا يمكن للعالم أن يواصل تقبل هذه الوقاحة.
تتذكرون الرعب الإسرائيلي من فكرة نزع الشرعية عن إسرائيل في المحافل الدولية، إنه الخوف الذي لا بد أن يأتي أكله مع الوقت.
لا يمكن لإسرائيل أن تواصل استحقار العالم والقانون الدولي وفي نفس الوقت يواصل العالم الابتسام لها والترحيب بها.
إسرائيل وجدت بقرار أممي وتم تنفيذ هذا القرار بضغط دولي خاصة من القوى الكبرى، والصهيونية أكثر من يفهم ويعرف أهمية تضليل العالم والكذب عليه من أجل تمرير المشاريع السياسية.
فقط من خلال ممارسة السياسات الفلسطينية في المحافل الدولية يمكن أن تجد إسرائيل نفسها في عزة. لذلك مثلاً قرار من الفيفا يمكن أن يثير غضب تل أبيب بقدر قرار من الجمعية العامة أو رأي استشاري تصدره محكمة العدل الدولية.
المؤكد أن إعادة اللحمة الفلسطينية لا بد أن تكون جزءاً أساسياً من مرحلة التعافي الفلسطيني ومن البحث الفلسطيني نحو استعادة المشروع الوطني لعافيته خاصة بعد الحرب المهولة في غزة واستمرار الاستيطان وتوسعه في الضفة الغربية وسياسات الاجتياح المستمر وتدمير بنية السلطة الفلسطينية.
لا شيء يمكن أن يستمر للأبد، والانقسام الفلسطيني بقدر سوداويته وبقدر كونه لحظة مخجلة في تاريخنا الوطني إلا أنه لا يمكن أن يكون قدراً للأبد. وعليه فإن الطريق إلى غزة يجب أن تكون ضمن خطة إنقاذ وطني من أجل وقف الحرب وإعادة أعمال القطاع وعودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، وأيضاً هذا لا بد أن يكون ضمن وفاق وطني جامع يقصد إلى حماية ما تبقى من مصالح وطنية ومساعدة أهلنا في غزة على التعافي والتفكير الإيجابي في مستقبل المشروع الوطني أو فيما تبقى منه.
ثمة الكثير الذي يجب فعله من أجل أن تصبح الطريق إلى غزة ممكنة، أولها الحقيقة المنسية أن الفلسطينيين ليسوا بحاجة لأحد من أجل أن يتحدثوا مع بعضهم البعض وليسوا بحاجة لوسطاء من أجل أن يجلسوا ليتفاهموا حول القضايا الخلافية. وأظن أننا بحاجة لتطوير هذا الفهم ليكون أساساً من شعاراتنا كما طورنا سابقاً مفهوم القرار الوطني المستقل وكان سياجاً حمى مصالحنا وحمانا من تدخلات الغير.