هل تتمخض حرب الاستئصال في غزة عن زوال ادعاء إسرائيل بأنها الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط؟ سؤال لن تكون له إجابة قاطعة، ليس فقط لأننا لم ننجح حتى اليوم في صياغة استراتيجية نضالية فلسطينية موحدة، ولكن لأن الأحداث ما تزال جارية حتى الآن!
اعتمدت إسرائيل منذ بداية تأسيسها على صبغ وجهها بعدة أنواع من المكياجات، لبست أقنعةً زائفة لإخفاء وجهها الحقيقي، نجحت في إخفاء أنها إثنية عنصرية فاعتمدت منذ تأسيسها على طلاء وجهها بالمساحيق التالية: استخدمت أولاً مرهماً (أساساً) اسمه "حركة تحرر وطنية صهيونية علمانية" تسعى لجمع شتات يهود العالم المضطهدين بزعم عودتهم إلى موطنهم الأصلي، فأبرزت نظاماً سياسياً برلمانياً، قام اليساريون باعتماده نظاماً انتخابياً في الكنيست، مع الفصل بين رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة! تمكن هذا المرهم من إخفاء طاقية الحاخامين، فظهر أن مؤسسيها كلهم علمانيون، على رأسهم هرتسل، وبن غوريون، كان الاثنان وجهين مكياجيين زائفين، هذا المكياج أنسى العالمَ كلَّه أن اسم الحركة الصهيونية مستنبط من التراث الأصولي الديني اليهودي الخالص، (جبل صهيون، جبل الإله الخالد) ولم يتنبه كثيرون إلى سر العدد 120 عضواً في الكنيست هو العدد المطلوب توفره في أيه انتخابات يهودية دينية أصولية، وله مدلولات توراتية، منها أن عدد 120 هو عدد سنوات عمر النبي موسى، وعدد سنوات بناء سفينة نوح!
ولترسيخ مكياج الديموقراطية الزائفة في إسرائيل سمحوا للفلسطينيين المقيمين، (العرب في إسرائيل) أن يشاركوا في هذه الانتخابات ولو كانت مشاركتهم محكومة بمواصفات خاصة!
إكمالاً لمساحيق مكياج الديموقراطية، قام المخططون الإسرائيليون في بداية تأسيس إسرائيل بوضع ستار كثيف من الطلاء (الماسكراه) على وجه إسرائيل الديموقراطية، أخفى هذا الطلاء صورة التطرف الحريدي الأصولي، أخفوا إيمان هؤلاء العنصريين بأن كل من هو غير يهودي هو (غوي) لا يستحق إلا أن يكون خادماً فقط لشعب الله المختار، حتى أن عوفاديا يوسيف حاخام السفارديم الراحل عام 2013 قال في درسه الأسبوعي: "خُلق الغوييم على صورة البشر ليخدموا فقط اليهود (الأفندية)!"
وفي الإطار نفسه أخفى المكياج صورة المرأة اليهودية عند الحرديم، أخفى أنهم يعتبرون المرأة نجاسة، ينبغي عليها أن تخضع لطقوس طهارة قاسية حتى تقترب من الذكر، ويجب عليها ألا تسير في ممرات الرجال، وأن تلتزم بألبسة صممها الرجال أيضا، وفي الوقت نفسه رشّوا على وجه إسرائيل الزائف بودرة مكونة من صور النساء اللائي يسبحن في شواطئ تل أبيب، وصور المجندات المتحضرات في جيش إسرائيل!
ثم وضعت إسرائيل على شفتيها أحمر الشفاه (قلم روج) وهو الكيبوتس الشيوعي الاشتراكي لمغازلة الأنظمة الاشتراكية والشيوعية في العالم، وجعلت من الكيبوتسات مراكز لبث الفكر الصهيوني التحرري! تمكن أحمر الشفاه هذا من إخفاء تشقق الشفاه الأصولي، أخفى في طياته؛ أن حق العودة لهذه الكيبوتسات هو لليهود فقط، وحق التجنيس لأبناء اليهوديات فقط، وحق استئجار الأراضي الحكومية لليهود فقط!
حتى يكتمل مكياج إسرائيل الزائف نجح مخططو إسرائيل في التركيز الإعلامي على محيطهم العربي، أبرزوا عيوب العرب باعتبارهم إرهابيين ديكتاتوريين يقمعون الحريات، استطاعت إسرائيل خلال القرن الماضي إقناع أكثر دول العالم بأن حروبها ضد العالم العربي حروبٌ مبررة، حروب دولة ديموقراطية! على العرب الديكتاتوريين، مع أن المؤرخين الجدد في إسرائيل وعلى رأسهم آفي شلايم، وإيلان بابيه، وسمحا فلابان قالوا إن كل حروب إسرائيل ضد العرب لم تكن شرارتها الأولى عربية، بل هي إسرائيلية.
أدرك كثير من الكتاب الأجانب في بداية الألفية الثالثة، بمن فيهم اليهود خطر هذه الأصولية اليهودية على العالم كله، ومنهم الكاتب دافيد هيرست الذي قال في كتابه (البندقية وغصن الزيتون): "إن الأصولية اليهودية هي أكبر مهددات الديموقراطية في العالم، يبلغ مؤيدوها أكثر من ربع سكان إسرائيل، إنها شديدة العداء للآخر، وهي أكثر بكثير من نسبة المتطرفين المسلمين، وإذا نجح الأصوليون اليهود حينئذٍ لن تصبح إسرائيل واحة للديموقراطية في الشرق الأوسط، كما يحلو للأميركيين أن يصفوها، لأنها ستطبق السيادة الإلهية المملوءة بالقسوة والغضب، وسوف تُخضع الجميع لسلطة الهلاخاه (الشريعة)، وسيقتصر تفسير الشريعة على الحاخامات، وسيحكم البلاد مَلِكٌ يختاره الحاخامات، وسيتم الفصل بين الرجال والنساء، وسيُقتل الزناة، وسيُرجم كل من يقود سيارته يوم السبت، وسيتم القضاء على الوثنية المسيحية، (من كتاب البندقية وغصن الزيتون، لدافيد هيرست ص54).
سأظل مؤمناً بأننا نحن الفلسطينيين نحتاج إلى استراتيجيات مواجهة، تفهم طبيعة تأسيس إسرائيل، لغرض إزالة مكياج إسرائيل الزائف، وإبرازها على حقيقتها العنصرية في كل الساحات، فهي بعنصريتها تهدد العالم بأسره وليس فلسطين فقط، ومن ثم وضع استراتيجيات تختلف كثيراً عما تؤمن به معظم أحزابنا الفلسطينية التقليدية السلفية حتى اليوم، وهي التي تؤمن بأن المقاومة المسلحة (العشوائية) هي فقط الطريق الوحيد للتحرير والخلاص!