لقد اثبتت التجربة التي حدثت على اثر الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006 والتجاذبات السياسية والقانونية التي تمت بين كل من رئيس الوزراء التابع لحركة حماس ورئيس السلطة التابع لحركة فتح و ما صاحب ذلك من احتقان في المؤسسات المدنية والأمنية بسبب عدم الايمان الثقافي بالتداول السلمي للسلطة، حيث لم يتم تمكين الحزب الفائز الجديد " حماس " كما لم يتم الصبر والتروي من قبل الأخيرة ، فيما يتعلق بعملية التمكين الأمر الذي سرع من عملية الحسم عسكرياً وبوسائل العنف والقوة بدلاً من وسائل الحوار وكذلك الوسائل القانونية حيث أثبتت التجربة الحاجة الموضوعية إلى الاتفاق على عقد اجتماعي على المستوى الحقوقي والوطني السياسي يستند إلى القانون الاساسي وكذلك إلى مرتكزات العمل الديمقراطي بحيث يتم حسم الخلافات عبر وسائل قانونية وسياسية وحوارية بدلاً من وسائل العنف أو الاقصاء، حيث أدت الاحداث التي حصلت في منتصف حزيران /2007 إلى انقسام النظام السياسي سياسياً وجغرافياً بين غزة والضفة وحماس وفتح الأمر الذي قوض أحد المكتسبات الرئيسية في مسيرة العمل الوطني والمجسدة ببناء المؤسسات القادرة على التشريع وعلى الرقابة والمسائلة والمحاسبة .
لقد اعتبرت حركة فتح ان المشاركة بالانتخابات تتم على قاعدة اتفاق اوسلو ، كما اعتبرت حركة حماس أن مشاركتها تتم على قاعدة تجاوز اوسلو، الامر الذي اربك المشهد وأضاع المرجعيات الرئيسية للعملية الانتخابية سياسياً وقانونياً.
إن التجربة الماضية تؤكد الحاجة إلى التوافق قبل اجراء الانتخابات، فهل نريد الانتخابات لتجاوز اوسلو أم على قاعدتها ، هل الانتخابات تتم وفق مرتكزات النظام الديمقراطي الذي يضمن التداول السلمي لسلطة أم ان الحزب الصاعد يستطيع ان يغير قواعد النظام ويعيد بنائه بناء على تصوراته الايديولوجية ، ويعمل على استثماره بما يعزز مواقع اعضاؤه بالوظيفة العمومية سواء الأمنية أو المدنية ، هل نحن بحاجة إلى الشراكة السياسية والادارية أم أن الحزب الصاعد يستطيع ان يهيمن ويزيح القديم ، وأن القديم يستطيع ان يستخدم هيئات وأدوات اخرى مثل المنظمة من أجل تعزيز سيطرته واقصاء الحزب الصاعد .
إن التوافق يجب ان يستند إلى الوثائق الناتجة من حوارات القاهرة واعلان الشاطئ من خلال الاستناد إلى وثيقة الوفاق وهي وثيقة الاسرى ، كقاعدة سياسية لمرحلة التحرر الوطني إلى جانب إعادة بناء م.ت.ف الأمر الذي يتطلب تفعيل الاطار القيادي المؤقت للمنظمة لتصبح معبرة عن كافة ألوان الطيف السياسي ومختلف الفئات والتجمعات الفلسطينية بالوطن والشتات إلى جانب إعادة الحيوية لهيئات السلطة عبر الانتخابات الدورية سواءً للبلديات أم للمجلس التشريعي أو الرئاسة إلى جانب انتخابات المجلس الوطني .
يتطلب التوافق أيضاً عدم اللجوء إلى العنف أو الاقصاء كوسائل لحل الخلافات فإذا حصل استعصاء فيمكن اللجوء للانتخابات المبكرة مثلاً ، كما يتطلب تحييد الأجهزة الأمنية إلى جانب استقلال القضاء .
فمن الضروري في اطار التوافق تحديد الهدف من الانتخابات ، على المستويين الديمقراطي والسياسي فإذا كانت هناك قناعة بأن الانتخابات ستعمل على تجديد المدة الزمنية وبالتالي تشريع اتفاق اوسلو الذي نحن بحاجة إلى تجاوزه فلا داعي لها ، وبالتالي فمن الممكن أن تكون الانتخابات للمجلس التشريعي بوصفه دائرة من دوائر المجلس الوطني للمنظمة المراد اعادة بنائها واحيائها أو أن تشكل دائرة من دوائر برلمان دولة فلسطين التي تم الاعتراف بها بالأمم المتحدة كعضو مراقب في 29/11/2012 .
وعليه فإنني ارى ان التوافق وطنياً وديمقراطياً يشكل شرطاً هاماً لأية انتخابات ، على قاعدة وجود منظومة تشكل مرجعية لأسس النظام الديمقراطي وللحيلولة دون النكوص او التراجع عنها.
وبالوقت الذي أكدت التجربة الفلسطينية الحاجة إلى التوافق قبل الانتخابات فقد اكدتها ايضاً التجربة العربية في اطار الحراك الشعبي " الربيع " ، حيث ان الاستعجال باللجوء إلى الانتخابات وصندوق الاقتراع دون الاتفاق على اسس ومرجعيات الدولة ، قاد إلى احتكار الحزب الفائز لبنية الحكم الأمر الذي اثار ردود فعل جماهيرية واسعة ادت إلى اسقاطه وبالتالي اقصاؤه عن المشهد السياسي ، كما حصل بالتجربة المصرية، عندما تسرعت حركة الاخوان المسلمين وقامت بإجراءات باتجاه السيطرة على مقاليد السلطة واخونتها على حساب الشراكة ومكونات العمل السياسي الاخرى .
من الهام الاستفادة من التجربة التونسية التي استخلصت الدروس والعبر من التجربة المصرية ، حيث فشل الاخوان بالاحتفاظ بالسطلة بحكم عملية الاخونة السريعة والرغبة بالاستحواذ ، الأمر الذي دفع الفاعليات المختلفة في تونس ومنها حزب النهضة للاتفاق على آليات للشراكة دون اقصاء الآخر ،رغم ان المشهد التونسي والذي عكسه الحراك الشعبي الأخير بحاجة إلى المزيد من الخطوات باتجاه الاستجابة للشعارات الرئيسية له يستند إلى الخبز والكرامة والحرية ، بما يتطلب إعادة بناء النظام على قاعدة ديمقراطية وتعددية تضمن الحماية الاجتماعية للفقراء والمهمشين .
إن التجربتين الفلسطينية والعربية مؤخراً اثبتتا بما لا يداع مجالاً للشك بأن الانتخابات وحدها ليس العلاج الشافي لأزمة النظام وللمشكلات القائمة ، بل ربما تشكل مدخلاً لتعميق الأزمة واستفحالها إذا لم تكن مرتبطة بالاتفاق على " العقد الاجتماعي " بين جميع الفاعليات الفكرية والسياسية لأسس النظام السياسي الديمقراطي .
إن الوصول إلى حالة العقد الاجتماعي يتطلب الحوار بين التيارات الرئيسية بالمجتمع "الوطنية الاسلام السياسي ، اليسارية ، الليبرالية " لكي يتم الوصول إلى خلاصات تشكل المرجعية الضرورية للنظام السياسي الديمقراطي التي تأتي الانتخابات كأداة من خلالها يتم تحقيق التحول الديمقراطي المنشود