يبدو أنّ المفاوضات الجارية منذ أشهر طويلة، قد تحوّلت إلى سجال عبثي تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرّة لمجاراة الدولة العبرية، ومنحها المزيد من الوقت لتحقيق أهداف بعيدة المدى، كانت قد رسمتها منذ البداية معها.
بينما تُكثر الإدارة الأميركية الحديث والعمل على منع توسّع الحرب إلى إقليمية، فإنّها عملياً، تجد نفسها وقد انخرطت في هذه الحرب وفق تكتيكات وإستراتيجية الحكومة الإسرائيلية.
من الواضح وفق مؤشّرات الوقائع والتصريحات، بأنّ نتنياهو يعتمد تكتيك تجزئة المعركة، والفصل بين ساحاتها، والاستفراد بكلّ واحدة على حدة طالما استطاع ذلك.
الحرب على فلسطين بدأت في الضفة الغربية قبل قطاع غزّة، ومنذ أن شكّل التحالف الفاشي القائم في دولة الاحتلال حكومته، التي يتبادل وزراؤها الأدوار، وباعتبار أنّ الضفة والقدس هي المستهدفة في المقام الأوّل.
كان تحقيق ذلك يستدعي تحييد غزة، التي ظلّت سياسة نتنياهو تعتبرها مردوعة ولا تشكل تهديداً اعتقاداً منه هو الآخر، أنّ "حماس" راضية بإقامة وتعزيز حكمها للقطاع، وإقامة إمارتها فيه.
والأرجح أنّ نتنياهو لم يأخذ في حساباته مدى جدية "محور المقاومة"، إزاء فتح العديد من الجبهات وفق تخطيط مسبق.
يعلم الكلّ أنّ إيران، ليست في وارد الانخراط الكلّي والفعلي في معركة واسعة مع دولة الاحتلال، وأنّ دورها يقتصر على تقديم الدعم المادي والتسليحي لفصائل المقاومة الفلسطينية، مسقوفاً بخطاب ناري ضد الولايات المتحدة ودولة الاحتلال.
تلقّت إيران ضربات كثيرة، وتعرّضت قواتها ومراكزها العسكرية، وخبراؤها في سورية، إلى ضربات لم تتوقّف، وكان الردّ دائماً، "سيأتي في الوقت والمكان المناسبين"، ولكن الردود كانت محدودة، ولم تردع دولة الاحتلال عن مواصلة القصف والاغتيالات داخل إيران وفي سورية وخارجها.
كانت دولة الاحتلال التي حرّضت الدول الكبرى على الانسحاب من الاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي، لا ترى حلّاً سوى توجيه ضربة مدمّرة للمنشآت النووية الإيرانية، خاصة بعد انسحاب إدارة دونالد ترامب من الاتفاق.
وبالتأكيد لم يكن في وارد نتنياهو أن "أنصار الله" الحوثيين في اليمن، سيكون لهم الدور الفاعل الذي ظهر خلال هذه الحرب الإجرامية، وأنّ الوجود العسكري الأميركي و"الغربي" الكثيف في المنطقة، يمكن أن يشكّل عنصر ضبط قوياً لأي تحرك من الحوثيين.
سورية في وضع لا يسمح لها بالانخراط في اشتباك واسع، وربما علاقاتها غير الإيجابية مع "حماس"، أيضاً، تشكّل سبباً في الامتناع عن المشاركة في قتال مع دولة الاحتلال، التي لا تكفّ عن شنّ الضربات للداخل السوري من دون أيّ رد، أما المقاومة في العراق، فهي بعيدة، وإمكانياتها محدودة ومحكومة لسقف العلاقة بين النظام، والوجود الأميركي و"الغربي" في العراق.
هكذا يكون 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أكثر من اختراق قوي لحسابات حكومة الاحتلال وأحدث إرباكاً شديداً في تلك الحسابات، وكشف عن المعادلة الصفرية التي يعتمدها نتنياهو للصراع على أرض فلسطين التاريخية.
يخطئ من يُرجع إصرار نتنياهو وحكومته الفاشية، على متابعة الحرب التدميرية والدموية إلى أسباب سياسية وشخصية، وباعتبار أنّ استمرارها هو الضمانة لبقائه في الحكم، ووسيلة نجاته من المحاكمات التي تنتظره على خلفية الفساد.
نتنياهو، هو أكثر من عمل على تقويض اتفاقيات أوسلو، وتسريع وتسمين وتوسيع الاستيطان، ولم يصدر عنه يوماً لا تصريحاً ولا تلميحاً أنّه مستعد للانخراط في عملية سلام مع الفلسطينيين، ناهيكم عن رفضه المطلق لإقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة والقدس، يعتبرها إرهابية وتهديداً لوجود دولة الاحتلال.
ومنذ "طوفان الأقصى"، أعلن نتنياهو أنّه يخوض حرب بقاء الدولة العبرية، فإن كان الأمر كذلك، فمن الوهم الاعتقاد أنّ هذه الحرب ستتوقف قريباً، أو أنّها ستقف عند حدود غزة، إن كان الجيش الإسرائيلي سيعيد احتلالها والبقاء، أو خرج منها مع استمرار السيطرة عليها عَبر أيّة ترتيبات لـ"اليوم التالي".
مع أنّ نتنياهو لديه ما يُخفيه بشأن إستراتيجيته وآفاق وأهداف حربه الإجرامية، إلّا أنّه الصادق الوحيد بين كلّ الكذّابين في المنطقة والعالم.
في مقالٍ لكاتبٍ صيني نُشر مؤخّراً، قال إنّ أفضل وسيلة لهزيمة الولايات المتحدة، هي السلام، ذلك أنّها تتغذّى على الحروب ومنها تستمدّ قوتها، واستمرار هيمنتها، غير أنّ هذا الاستنتاج على قدر ما فيه من الصحّة، إلّا أنّه لا ينطبق على الحالة في فلسطين، التي لم يدّخر قادتها وُسعاً للبحث عن السلام، خلال ثلاثين عاماً لكن المحصّلة كانت مزيدا من الاستيطان ومصادرة الأرض، وقطع الطريق، بل كلّ الطرق أمام إمكانية تحقيق سلام، يؤدّي إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة.
الإدارات الأميركية هي أوّل وأكبر الكذّابين، والمنافقين، الذين يرفعون شعارات السلام، وتحقيق "رؤية الدولتين"، والاستمرار في تقديم الوعود من دون أن تنفّذ شيئاً منها.
الإدارات الأميركية صادقة في موضوع واحد، وهو أنّها ملتزمة بقوّة بدعم وتفوّق دولة الاحتلال، والاستعداد لحمايتها، وتقديم كلّ ما يلزم من وسائل الدمار، لتمكينها من تحقيق أهدافها التي تتجاوز أرض فلسطين التاريخية، إلى "إسرائيل الكبرى"، بما يشمل العديد من الدول العربية المجاورة.
تستطيع الولايات المتحدة، المرضع الدائم والأساسي لدولة الاحتلال، وقف الحرب في الوقت الذي تحدّده لو أرادت، لكن الأمر يذهب مرّة أُخرى إلى سؤال: مَن يحكم ويتحكّم بسياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية؟
جو بايدن، يرغب في إتمام صفقة تبادل، تؤدّي إلى هدنة مؤقّتة والإفراج عن الأسرى، ورجالاته يبذلون جهوداً مضنية في سبيل ذلك، يرافقهم حشد عسكري غير مسبوق في المنطقة للمساعدة، في الضغط، ولضبط إمكانية توسّع الصراع، لكن إدارته لا تفعل.
ما تقدّمه الولايات المتحدة من دعم وصل إلى أكثر من 50 ألف طن من الأسلحة والصواريخ عَبر 500 رحلة جوية، و107 شحنات بحرية، منذ "طوفان الأقصى"، يمكن أن يتمّ توظيفه للضغط على دولة الاحتلال، لكنه في الواقع يشجّعها على المواصلة، حتى لو أنّ ذلك يُغضب الإدارة، ويُربك حساباتها الانتخابية.
حين يستعرض المرء، سلوك الإدارة الأميركية، المنخرط فعلياً في الحرب التدميرية والإجرامية منذ البداية، وما أرادته، وتريده من حكومة نتنياهو، يصل إلى نتيجة واضحة وهي، أنّ من يقرّر مواقف وأفعال الإدارة هو اللوبي الصهيوني الأميركي.
محاولات بايدن وفريقه لإرضاء اللوبي الصهيوني من ناحية، والمعترضين على سياسته في الحزب الديمقراطي، والمجتمع الأميركي من ناحية ثانية، باءت بالفشل.
في الواقع فإنّ الإدارة الأميركية تعتقد أنّ التوصل إلى صفقة، تؤدّي إلى الإفراج عن الأسرى، ولا تكفّ يد الدولة العبرية عن مواصلة الحرب، قد يساعد في استمالة المعارضين لدور وسياسة الإدارة، من دون أن تغضب اللوبي اليهودي، فأصوات هؤلاء وأولئك مطلوبة لترجيح كفّة كامالا هاريس في الانتخابات.
نتنياهو يستنزف الوقت، ويتلاعب بشروط الصفقة، ويجرجر الإدارة الأميركية، التي لا تكفّ عن تقديم وعود، ورسائل متفائلة، إلى أن تدخل الانتخابات الأميركية المربّع الرمادي، في انتظار عودة ترامب الذي يحمل صفات وتطلّعات نتنياهو.
سلوك نتنياهو وحكومته الفاشية مقروء لمن لديه عيون وآذان، فبينما يركّز الكلّ الاهتمام على المفاوضات والصفقة مرّة، ومرّة على الشمال، ومرّةً أُخرى على الردّ الإيراني المرتقب، بينما يتلاعب نتنياهو بالكلّ، يترك المجال لإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ووزراء "ليكوديين" آخرين، لتصعيد العدوان على المسجد الأقصى، عَبر اقتحامات، وسياسات، تهدّد بانفجار الوضع.
وزير التراث في الحكومة الفاشية، يعمل على تشجيع "السياحة" في الحرم القدسي، ويخصّص لذلك موازنات، وبن غفير يريد أن يبني كنيساً في ساحات المسجد، وسموتريتش يقود الميليشيات الاستيطانية المسلّحة، للتغوّل على الفلسطينيين، وجيش الإجرام يوسّع دائرة اقتحاماته للمدن والقرى والمخيمات، ويستخدم وسائل قتالية حربية تذكّر بما جرى خلال حملة "السور الواقي" في عام 2002، ولكن بآفاق وأهداف مختلفة.