على ما يبدو أننا سنخسر عاماً دراسياً جديداً في قطاع غزة، وأن التلاميذ لن يتمكنوا من الجلوس على مقاعدهم للعام الثاني على التوالي وأن جامعاتنا لن تفتح كما هو حال مدارسنا، وعلى ما يبدو أننا عجزنا عن الوصول لصيغ وآليات تمكننا من استعادة القليل من العام الدراسي القادم لأننا على ما يبدو أيضاً لم نناقش الأمر بجدية وبمستوى وطني لائق بحجم المشكلة، وعلى ما يبدو أن مثل هذه الكارثة التي تتمثل في خسارة عامين دراسيين متتاليين ستكون لها تداعيات كبيرة على مستقبل الجهاز التعليمي في قطاع غزة كما ستكون لذلك تداعيات مختلفة على مناحي الحياة الأخرى في القطاع. وهذا ليس «على ما يبدو» بل هو من يقين القول.
خلال أيام، سيعود التلاميذ في العالم لمقاعد دراستهم وبعض الدول عاد تلاميذها قبل أيام، وسيظل التلميذ الفلسطيني في غزة يجلس في خيمته أو مركز الإيواء الذي يبحث عن النجاة فيه من الموت يتحسر على عامه الدراسي الثاني الذي فاته بسبب الحرب. سيحمل الأطفال حقائبهم المدرسية وسيفرحون وهم يخطون نحو بيتهم الثاني فيما سينظر تلاميذ غزة إلى السبورة في مخيلتهم ويرون كيف تم اغتيال أعمارهم وأحلامهم دون أن يتحرك أحد لإنقاذهم وإنقاذ الحروف والكلمات التي ضاعت وتاهت في دفاترهم تحت الأنقاض. هكذا سيواصل الناس في غزة النظر للمستقبل دون أن يروا فيه أي بريق أو وميض. دولة الاحتلال تواصل حربها البشعة على قطاع غزة، تقتل كل شيء وتغتال كل شيء وتحيل كل شيء إلى رماد وركام. والحرب تقترب من دخول عامها الثاني خلال شهر ونيف وشعبنا ينزف دماً ويزداد عدد الشهداء يوماً وراء آخر حتى بات ارتقاء اقل من مائة شهيد في اليوم أمراً عادياً، وبات الشهداء مجرد أرقام يتم ذكرهم في نشرات الأخبار. فالعالم لم يعد يكترث كثيراً بدمنا النازف لأنه شريك في قتلنا بصمته كما بكل الخدمات والأدوار التي قدمها لتعزيز دولة الاحتلال طوال سبعة عقود ونصف العقد وقبل ذلك من أجل خلقها وتمكينها من ابتلاع ارضنا ونفينا خارجها.
يصعب تخيل الوضع في قطاع غزة لأن كل ما نسمعه في الأخبار أو نراه خلال مقاطع الفيديو التي يبثها النشطاء وحتى المواطنون على صفحاتهم لا تعكس حجم ولا طبيعة الكارثة. بعد أحد عشر شهراً فإن غزة لم تعد غزة ولم يعد المكان هو المكان إذ لم يبقَ منه شيء، كما أن القطاع الذي كان يعج بالحركة والحيوية رغم الحصار القاهر الذي كانت تفرضه دولة الاحتلال عليه منذ قرابة عقدين مات فعلاً واغتيلت الحياة فيه ولم يعد فيه أي مدينة أو مخيم أو بلدة أو قرية على حالها. لا توجد مؤسسات لا حكومية ولا أهلية ولا خاصة كما لا يوجد أي نوع من أنواع الخدمات يمكن أن يتم تقديمه للمواطنين، وما يقدم منها مثلما هو الحال في قطاع الصحة ضعيف ويتم بأقل الممكن المتوفر فالمستشفيات شبه متوقفة ولا يوجد فيها دواء ولا معدات ولا يتم إجراء العمليات إلا عند الضرورة بسبب النقص الحاد في كل شيء، وصار طبيعياً أن يموت الناس بسبب وعكة صحية صغيرة تلم بهم لأنهم لا يتلقون العلاج المناسب فهو غير موجود. ويكفي النظر إلى صفحات المواطنين الشخصية لمعرفة كيف يموت الشباب وصغار السن من مجرد وعكة أو مرض عادي. في ظل هذا الوضع فإن دولة الاحتلال حولت القطاع إلى مكان يصعب العيش فيه وجعلت فرص إعادة الحياة فيه صعبة.
طبعاً، لا توجد مدارس في القطاع. جميع المدارس في قطاع غزة تم تدميرها بشكل كامل ولا يمكن لنا تصنيف التدمير إلى كلي وجزئي. فالمدارس في القطاع كلها تقريباً خارج الخدمة ولا تصلح لأن تكون مدارس بشكل حقيقي. هناك مدارس تم تدميرها بشكل كامل ولم يبقَ منها شيء، وهناك مدارس تم تدمير أجزاء كبيرة منها وهذه أيضاً استخدمها المواطنون مراكز إيواء يحتمون فيما تبقى منها من فصول بسبب تهدم بيوتهم وفقدانهم لأماكنهم. ومع ذلك فإنه يصح القول، إن كل المدارس لم تعد قادرة على أن تكون مدارس بشكل حقيقي تتم فيها عودة الحياة التعليمية لمسارها، فالمدرسة حين يتم تدمير فصولها ومحتوياتها ومكاتبها لا تعود مدرسة لأن الحياة المدرسية لا يمكن أن تعود لها لو توقفت الحرب فهي تفتقر إلى أقل المقومات التي تجعل منها مكاناً للتحصيل المدرسي.
ومع ذلك، لم نقم بما يجب أن نقوم به من أجل عودة الحياة التعليمية في القطاع. الظروف صعبة، نعم صعبة، والناس لا يستقرون في مكان، نعم، فهم لا يستقرون في مكان وقد يحملون خيامهم في أي لحظة ويبحثون عن مكان آخر ينصبونها فيه. نعم، كل السياق في غزة غير مستقر وغير واضح ويصعب وضع خطط حقيقية ثابتة لأنه يصعب قراءة الواقع وتوقع مساره، ومع ذلك لا نملك ترف التفكير في الاستقرار لأن ما يجب علينا أن نقوم به هو أن نضع خططا قابلة للتحول وتستجيب للتغيرات الطارئة في مسار حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال على شعبنا.
للأسف، لم نرَ جلسة وطنية أو نقاشا وطنيا حقيقيا حول مستقبل العملية التعليمية في غزة. يجب عقد نقاش وطني وفي غزة من أجل ذلك بين جميع الأطراف للتفكير في حلول خلاقة من أجل أن نحاول إنقاذ مستقبل أطفالنا. القصة ليست في أن نقوم بعمل مدارس مؤقتة بل في وضع خطة لعام دراسي كامل في سياق مؤقت وأنا اقترح ألا ننتظر نتائج مفاوضات التهدئة حتى تثمر ولعلها تفعل في نهاية المطاف، بل أن نفكر أننا يجب أن ننقذ أنفسنا من المزيد من الويلات.