حرب التصفية ومتطلبات الصمود الوطني

image_processing20230801-700669-7pfmr5.jpg
حجم الخط

بقلم جمال زقوت

منذ أن أسقطت إسرائيل خيار "التسوية السياسية"، كانت تندفع تدريجياً نحو تصفية القضية الفلسطينية بكل أبعادها. فإسرائيل الكولونيالية تدرك قبل غيرها أن محاولاتها لإسقاط حق الفلسطينيين في الاستقلال الوطني وتنفيذ خطتها للضم، سيفتح الباب واسعاً للخيارين الآخَرَيْن للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والمتمثلين، إما بترسيم نظام الأبرتهايد ضد الشعب الفلسطيني، أو بعودة الصراع إلى جذوره ذات الطابع الوجودي. فالأول أي ترسيم الأبرتهايد قد يفضي، وبعد صراع دامٍ قد يستمر لسنوات طويلة إلى إسقاطه، وربما فتح الطريق نحو دولة ثنائية القومية، أو الدولة الديمقراطية الواحدة لكل مواطنيها، وهذا ما تخشاه وترفضه. فعصر أنظمة الأبرتهايد بات منبوذاً لكافة شعوب الكون، وآخرها النظام العنصري في جنوب أفريقيا. ولعل انتفاضة الشيخ جراح المحلية والكونية عام 2021 شكلت دليلاً بارزاً على نبذ محاولات استعادة وترسيم مثل هذه الأنظمة العنصرية ضد الشعوب والمجتمعات الأصلانية.

وأما الخيار الأخير، فهو بالتأكيد يستجلب معه المقاومة كحق مشروع وطبيعي للشعوب الخاضعة للاحتلال ومحاولات التطهير العرقي.

لقد أدركت إسرائيل أن انقلابها على الشرعية الدولية، ومُضيِّها في مخططات التصفية والضم يتطلب منها بداية إخضاع الشعب الفلسطيني، وتفتيت حركته الوطنية وتمزيق الأطر الشرعية لتمثيله وقيادته للدفاع عن حقوقه الوطنية. كما أدركت أيضاً أن الانحياز الدولي، والانشغال العربي في قضاياه القطرية، ومعه غياب الرؤية الجامعة لأي مشروع نهضوي، لا يكفيان لوحدهما في تمرير مشاريعها التصفوية، وإخضاع الشعب الفلسطيني، رغم أن ذلك شجعها ويشجعها على المغامرة في تنفيذ تلك المخططات.

في هذا السياق جاءت حرب الإبادة الإسرائيلية، ليس لمجرد الرد على انفجار السابع من أكتوبر، وإن حاولت إسرائيل من خلاله شيطنة المقاومة الفلسطينية ودعشنتها، لإبطال ما تبقى من مكانة لعدالة القضية الفلسطينية في الرأي العام الدولي. فقد جاءت هذه الاستراتيجية كمكون من مكونات استكمال جريمة النكبة، الأمر الذي يفسّر العديد من التصريحات حول "الحرب الوجودية لبقاء إسرائيل" والتي تهدف لمعالجة تداعيات إسقاط خيار تسوية الصراع، من خلال، ليس فقط اجتثاث المقاومة الفلسطينية، بل واجتثاث الوجود الفلسطيني تجنباً لخيارات أخرى لا تستجيب لعنصريتها الفاشية. فالتجربة الصهيونية منذ ما بعد النكبة، تدرك أن مجرد البقاء الفلسطيني يعني توليد موجات وأساليب وثورات متجددة من المقاومة لن تتوقف.

لقد شهدت السنوات الماضية ترابطاً واضحاً بين انجراف إسرائيل نحو الفاشية الدينية اليمينة، وما يرافقها من مخططات الضم ومحاولات حسم الصراع بالقضاء على كل بؤر المقاومة في الضفة المحتلة، مع المزيد من محاولات إخضاع الحالة الفلسطينية، والسعي لهندسة مستقبل وطبيعة النظام السياسي الفلسطيني، لترسيخ قلة حيلته في المواجهة السياسية والكفاحية الملموسة، ضد مخططاته التي تسير نحو التصفية، مستفيدة إلى الحد الأقصى من الانقسام الفلسطيني، وما ولّده من تيئيس للأجيال الشابة ومعاناة شعبية متعددة الأشكال.

سرد هذه الوقائع يبدو ضرورياً لفهم طبيعة المشروع التصفوي الراهن، والذي كان قد دخل حيز التنفيذ تدريجياً منذ ما يزيد عن عشر سنوات، وتعاقبت عليه حكومات مختلفة، كانت وما زالت ترفض الإقرار بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني كأساس لأي تسوية، وهذا ما يفسر أيضاً اختلاف إسرائيل الراهنة على كل شيء إزاء مستقبلها، باستثناء رفض الحقوق الفلسطينية الأمر الذي بات محل إجماع الأغلبية الساحقة. فالخلاف داخلها ينحصر في الوسيلة الأقل ضرراً على مكانتها لتحقيق ذلك.

الفشل الاسرائيلي نسبياً في تحقيق هدفي حرب الإبادة، والمتمثلين في التهجير وتصفية المقاومة في قطاع غزة، هو الدافع المباشر لاستعجال البدء بالعملية العسكرية المفتوحة في شمال الضفة، كمرحلة ستمتد إلى مختلف مناطقها، سيما إذا ضمنت إسرائيل هدوءاً نسبياً في جبهة الشمال، أو على الأقل عدم تصعيدها. هذا في وقت أن مشروع الضم والحسم يسير على قدم وساق في مختلف أرجاء الضفة، بما في ذلك القدس المحتلة التي تتعرض لأبشع عملية تهويد تهدف لاستكمال تغيير طابعها الجغرافي والديمغرافي، وفق خطة "القدس 2050".

السؤال المركزي الذي يدور في أروقة النقاش العام بات يتمحور حول متطلبات المواجهة، وما هي الأدوات والوسائل الأكثر فاعلية لإفشال المخططات الإسرائيلية؟ من البديهي أن أحد أهداف حرب الإبادة الشاملة في القطاع استهدفت ترويع الفلسطينيين في الضفة، من أن أية مقاومة أو مواجهة لمشروعها التصفوي ينتظرها مصير غزة المدمرة، وهو ما سبق واستخدمه قادة جيش الاحتلال لترويع اللبنانيين أيضاً، "مصير بيروت سيكون كمصير غزة". هذا الأمر، وخاصة بفعل الانقسام السياسي ومواقف السلطة الوطنية والقيادة المتنفذة في منظمة التحرير، بات كما يبدو يشكل عنوان انقسام جديد حول كيفية مواجهة حرب التصفية الإسرائيلية.

النقاش حول وسائل النضال الأكثر نجاعة أمر طبيعي وضروري ومشروع، سيما في صراع مزمن وطويل الأمد، يمتد منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، وقد تميّز بمحطات مجيدة منذ الكرامة وصمود بيروت، وليس انتهاء بالانتفاضة الشعبية الكبرى عام 1987، والدروس الغنية المستفادة من هذه المحطات. ولكن من غير الطبيعي أن يجري نقاش ذلك كله خارج أطر صنع القرار الوطني الموحد، التي ما زالت غائبة. حينها سيكون ذلك مجرد ثرثرة، بل وربما قد ينزلق لتبرير حالة الانكسار أمام نموذج الدمار في غزة، التي هي نفسها لم تنكسر، وما زالت تقاوم رغم المذبحة الممتدة على مدار ما يقارب العام. لأن غزة تدرك مكانتها التاريخية كرافعة للمشروع الوطني.

نعم ما يجري يكاد يكون حرباً وجودية، ولكنها عدوانية لاستكمال اقتلاع شعبنا الفلسطيني وتصفية حقوقه، وأن حرب الابادة في قطاع غزة هي جزء من هذه الحرب، وأن مدخل البحث عن جواب لسبل المواجهة الناجعة يبدأ بالاستجابة للإرادة الشعبية بانجاز فوري لمتطلبات الوحدة الوطنية، والتي باتت ترقى لحاجة وجودية، من خلال التنفيذ الفوري لاتفاق بكين بكل مكوناته، وفق أولويات محددة، سيما لأطر صناعة القرار الوطني داخل هيئات المنظمة التي يجب أن تتسع للجميع كي تعود لطابعها الجبهوي في قيادة النضال الوطني، ولمتطلبات تعزيز القدرة على الصمود كأولوية عليا لحكومة الوفاق الوطني المطلوب إنجازها دون تردد أو حسابات ضيقة، مروراً بأشكال النضال الكفاحية والسياسية والدبلوماسية التي تخدم استراتيجية البقاء وتستلهم دروس الانتفاضتين، وبما يقطع الطريق على الفاشية الصهيونية من سرقة التاريخ والجغرافية الفلسطينية. فشعب أعظم انتفاضة في التاريخ المعاصر لن يستسلم .. فنحن على مفترق تاريخي، وليس لدينا فيه من خيار سوى الوحدة والصمود لانتزاع حقوقنا التي باتت محل إجماع كوني، وعلينا وحدنا تقع مسؤولية استثمار هذا الإجماع، وليس تبديده.

إن مدخل البحث عن جواب لسبل المواجهة الناجعة يبدأ بالاستجابة للإرادة الشعبية بانجاز فوري لمتطلبات الوحدة الوطنية، والتي باتت ترقى لحاجة وجودية، من خلال التنفيذ الفوري لاتفاق بكين بكل مكوناته.