في مقطع فيديو يعود عمره إلى أكثر من 20 عاما، يمسك الأسير زكريا الزبيدي بيد نجله البكر "محمد" ليعلمه المشي.
اليوم، وبعد 21 عاماً على ذلك المشهد، مشى محمد "شهيداً"، ليلتحق بركب العائلة التي قدمت ثمانية شهداء من أصل أقل من 40 شخصاً، هم كل أفراد عائلة الزبيدي.
لم يكبر محمد الزبيدي، فقد توقف عمره عند الـ21 عاما، بعد قصف مسيرة للاحتلال خمسة شبان فجر اليوم في مدينة طوباس.
كانت أمنية والده، الأسير زكريا الزبيدي، أن يتركه الاحتلال ليكبر ويصبح طبيبا أو محاميا.. وأن يعيش حياة أفضل من التي عاشها، في ظل انعدام "الأمل".
عقب ارتقاء شقيقه داود، في 15 أيار 2022، قال زكريا زبيدي: "كل الذين فقدتهم لم أودعهم ولم أـدفنهم، فعندما استُشهد أبي كنت في سجن جنين وسمعت ذلك في سماعة المسجد، وأمي استُشهدت بمعركة المخيم ودفنها الصليب، ومن شدة المعركة لم نستطع الوصول إليها، وهي التي كانت تردد دائماً "الله يجعل يومي قبل يومك"، وأخي طه دفنوه وأنا تحت حطام المخيم والبيوت المهدومة، واليوم داود، ولم أستطع توديعهم جميعاً، ولم أتمكن من ممارسة طقوس العزاء، لا أعرفه ولم أجربه ولم أمارسه بشكل شخصي".
40 شخصاً فقط، هم أفراد عائلة الزبيدي في مخيم جنين! لكن الأكثر دهشة من ذلك، أن العائلة لم تدفن أي حالة وفاة طبيعية منذ عام 1993، يوم رحل محمد الزبيدي (والد زكريا وداود)، فيما دفنت 8 من أفرادها، شهداء. آخرهم محمد فجر اليوم، وقد سبقه ابن عمه نعيم جمال في الأول من كانون الأول 2022.
بيت الشقيقين محمد وجمال الزبيدي، العائلة اللاجئة من "وادي الحوارث - قيساريا" ضحت بأكثر من 90 عاماً من حياة أبنائها في سجون الاحتلال.
وبحسب جمال الزبيدي "أبو أنطوان" (68 عاماً) في حديث سابق مع "وفا"، فإن اعتقال أفراد العائلة بدأ منذ منتصف الخمسينيات، حين اعتُقل "محمد جهجاه"، جد زكريا، لما يقارب 4 سنوات، قبل أن يحرر نفسه بالتمرد الذي قام به الأسرى في سجن شطة في 30 تموز 1958، رفقة 68 أسيراً، فيما استُشهد 11 أسيراً وأصيب 13 آخرون. وبعد تحرره انتقل في عام 1963 ليقود الكفاح المسلح في مخيم "الحصن" في إربد، قبل أن ينتقل مع الفدائيين بعد أحداث أيلول الأسود إلى سوريا ومنها إلى ألمانيا في بدايات السبعينيات.
وأضاف: اعتُقل محمد الزبيدي والد زكريا، عام 1969 لمدة عام واحد، واعتُقل لاحقا في الانتفاضة الأولى لمدة 8 أشهر إداريا، فيما اعتُقلت أنا وشقيقي "إبراهيم" عام 1979 لمدة عام ونصف العام، وأُفرج عنا في نهايات عام 1980. وتابع جمال الزبيدي: "بعد الإفراج نُفي شقيقي إبراهيم إلى الأردن مدة خمس سنوات، لكن الاحتلال لم يسمح له بالعودة إلى الوطن بعد انتهاء المدة، وتوفي هناك عام 2012، فيما تجدد اعتقالي لـ6 مرات معظمها اعتقال إداري، وكان آخرها عام 2011 و2014، وقد بلغت في مجملها 4 سنوات".
وقال: "اعتُقل زكريا مرتين خلال الانتفاضة الأولى، في الأولى حُكم عليه بـ6 أشهر والثانية بـ5 سنوات، قبل أن يفرج عنه بعد توقيع اتفاقية "أوسلو"، قبل أن يتم اعتقاله مؤخرا في شباط 2019، ليبلغ مجمل ما أمضاه في سجون الاحتلال حتى اليوم 8 سنوات. فيما حُكم شقيقه "العبد" في الانتفاضة الأولى لـ6 أشهر، ثم لـ6 سنوات".
وأضاف: "جميع أبناء شقيقي محمد اعتُقلوا ومعظمهم أعيد اعتقاله لعدة مرات، إذ أمضى "جبريل" أكثر من 13 عاما، في الأولى 12 عاما، والثانية 10 أشهر والثالثة 6 أشهر. فيما أمضى "يحيى" 17 عاما في السجون، وأمضى الشهيد "طه" عامين خلال 4 مرات اعتقال إداري في الانتفاضة الأولى، فيما أمضى الشهيد "داود" 16 عاماً في سجون الاحتلال، كما أمضى أبنائي "محمد" 3 سنوات و9 أشهر، و"يوسف" 3 سنوات ونصف السنة، و"نعيم" 5 سنوات في سجون الاحتلال".
يرفض بشكل متكرر، أبو أنطوان، هذه الهالة الكبيرة التي تشكلت حول عائلته، معتبراً أن كل ما يقومون به هو الواجب الطبيعي. فيما يعدد أسماء عائلات في المخيم لا تقل تضحية عن عائلته.
وأضاف أبو أنطوان: شهداء عائلتي وأقربائي هم: زوجة أخي محمد، سميرة الزبيدي (4-3-2002)، وابن الشهيدة سميرة الشهيد طه الزبيدي الذي استُشهد خلال معركة نيسان 2002، وابن شقيقتي، زياد العامر (3-4-2002) وهو من قادة كتائب شهداء الأقصى وأذرع فتح العسكرية في مخيم جنين، إذ تم نسف بيته عام 1988 واعتُقل في تلك الفترة وأُفرج عنه عام 1994 وكان محكوما بالمؤبد، وابن شقيقتي الأخرى، نضال أبو شادوف (من برقين وجثته محتجزة لدى الاحتلال منذ تموز 2001)، وداود الزبيدي (15-5-2022). مضافاً إليهم: نعيم جمال الزبيدي (1-12-2022) ومحمد زكريا الزبيدي (5-9-2024).
وتابع: "بيدي نقلت معظم جثث شهداء المخيم في نيسان 2002، أكثر مشهد مؤلم، عندما مررت بجثة طه، ولم أعرفه، كانت جثته محروقة بفعل القصف، ولم يتبقَ منه إلا جبينه تعلوه قطعة قماش للمقاومة".
وأضاف، "سيرة نضال العائلة ضد الاحتلال الإسرائيلي: توفي والدنا عام 1980 أثناء وجودي وشقيقي إبراهيم في السجن، فيما كان شقيقنا الثالث محمد "أبو العبد" في الأردن، وهكذا دُفن الوالد دون أن يشارك في جنازته أو يودعه أيٌ منا.
وأوضح جمال الزبيدي، "لم يكتفِ الاحتلال باستهداف العائلة، بل منعنا من وداع أقاربنا، إذ في عام 1985 مرض شقيقي محمد "أبو العبد" الذي اعتُقل مرتين خلال الانتفاضة الأولى. ورفض الاحتلال إدخاله إلى مستشفيات الداخل، إلى أن توفي في 26-5-1993. وحين توفي كان العبد وزكريا في السجن فلم يحضرا جنازته، وهُدم بيت شقيقي أبو العبد أول مرة في حزيران 1988، أثناء نسف منزل ابن شقيقتنا زياد العامر، وتضرر 35 منزلا بفعل التفجير".
وتابع: "في أحد أيام معركة المخيم، كنا 14 نفرا احتمينا داخل حمام صغير، وسقطت على بيتنا 3 صواريخ نسفت البيت. لكن نجونا، فانتقلنا إلى منزل لأحد الجيران، ليتم قصفه، ونجونا مرة أخرى. كان قدرنا أن ننجو، برغم شدة القصف.
حين تلتقي بجمال الزبيدي "أبو أنطوان" فأنت تلتقي بمخيم جنين بأكمله. هذا الرجل الذي يأخذ شكل المخيم، سناً وتفاصيل وملامح، هو المخيم، بقوته وعجزه، بألمه وفخره.
لهذا الرجل، كما حال المخيم، حكاية مع الموت، مع الشهداء، مع الأسر والسجون، مع النفي والمطاردة والمداهمة. تضحيات لا بد أن تُروى، أن تُحفظ للأجيال القادمة، كي لا نضيع.