دليلة الغزاوية لا زالت حية، المرأة الفلسطينية التي حطمت القوة الخارقة للبطل الأسطوري التوراتي الإسبارطي شمشون الجبار، ألقت القبض عليه في قطاع غزة بعد أن قتل آلاف الفلسطينيين، فلم يكن شمشون نبياً ولا نصف إله، ولا المخلص والمنقذ لبني إسرائيل، كما ذكر في العهد القديم، فقد سقط جبروته وهيبته في 7 أكتوبر 2023. كشفت دليلة هشاشته وضعفه وغطرسته وشهوانيته الإجرامية، سقط شمشون الصهيوني القديم، وسقط شمشون العصر الحالي وأهدافه العدوانية العنصرية.
لولا الأساطير والخرافات الخيالية لما قامت دولة إسرائيل، هذه الخرافات التي أنكرت الحق التاريخي والطبيعي والشرعي للشعب الفلسطيني على أرضه فلسطين، وقد شحنت بالدين والإعلام والمال والقنابل والدعم الغربي، وبالروايات الاستشراقية الاستعمارية، وتحويل الوهم إلى حقائق، تحويل غزة إلى هيكل عظمي وكومة رماد، أشكال القتل المتعددة لمحو الجسم والذاكرة، إطلاق شمشون هذا الحيوان المكبوت جنسياً وأخلاقياً، والمسلح بكل غرائز الموت والكراهية، لتصير غزة مسلخاً للذبح والتدمير والانتقام من دليلة الأولى ومن دليلة الثانية.
وأمام صمود الشعب الفلسطيني على أرضه التاريخية، وبرغم المجازر والنكبات، ومحافظته على هويته وكينونته الوطنية والسياسية والثقافية، استدعى الإسرائيليون أسطورة شمشون الجبار من خلف ثلاثة الآف عام قبل الميلاد، ليكمل المهمة الأسطورية الخارقة بإبادة الشعب الفلسطيني ومحوه من الوجود، صار شمشون هو المرجعية القانونية والروحية والأخلاقية للشعب الإسرائيلي، صار هو الفكر المميت الذي يقبع في العقلية الصهيونية، والتي ترى الناس مجرد حشرات أو ذباب يمكن التخلص منهم بسهولة.
وقف المجرم الصهيوني نتنياهو عن منصة الكنيست الإسرائيلي يوم 9 أكتوبر 2023 صارخاً: يا الهي أعد لنا شمشون الجبار لننتقم من دليلة الغزاوية، أعده لنا ولو للمرة الأخيرة، نحن أبناؤك أيها إلاله، أبناء شمشون، أبناء النور الذين يقاتلون أبناء الظلام، أبناء الحضارة الذين يقاتلون أبناء الهمجية، أبناء الطهارة المقدسة الذين يقاتلون دليلة المخادعة، لا تتخلى عنا أيها الرب، نحن الآن بأمس الحاجة لقوة شمشون للقضاء على أبناء دليلة، الحيوانات البشرية، أنها الحرب الوجودية، دليلة لا تفهم إلا لغة القوة، دليلة عادت من التاريخ، ونراها في كل مكان وزمان، دليلة تهدد نورك الإلهي وأرض الميعاد والآباء والأجداد، دليلة كشفت الأكذوبة عن أرض التوراة والهيكل المزعوم.
يا إلهي: نحن نقاتل نيابة عنك، وباسمك، وأصبحنا بأمس الحاجة إلى قوة شمشون الطاغية، لنبيد نسل دليلة، هؤلاء العماليق من على هذه الأرض، نحن بحاجة إليك لنعيد دليلة الغزاوية إلى العصور الحجرية، أنها الضرورات الأمنية، الدفاع عن النفس، التصدي لمعادات السامية، الوقوف في وجه الإرهاب والشر، أطلق أيها الإله شمشون من أعماق الأرض ومن أعماق السماء، شمشون الوحش المتعطش للدماء، سارق الأرواح والأكثر قسوة ووحشية من النازيين، نريد أن ننتصر على أبناء دليلة الفلسطينية.
يا إلهي: لن نكرر أخطاءنا السابقة التي وردت في الإصحاح الواحد والثلاثين في العهد القديم، عندما سبى بنو إسرائيل نساء فلسطين وقتلوا الأطفال، ونهبوا جميع غنائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنها، وجميع حصونهم بالنار، فسخط الإله على جنود بني إسرائيل لأنهم أبقوا الإناث على قيد الحياة، ومن بينهن دليلة الغزاوية التي نجت من ذلك الخراب ومن أقدم إبادة في التاريخ.
غزة القديمة الكنعانية الأصيلة التي بواسطة ابنتها الشجاعة النقية الجميلة دليلة تقول لغزة الجديدة التي تتعرض للحرق والإبادة على يد القوة الشمشونية الصهيونية: إن مصير الاحتلال والطغاة إلى زوال، وإن لا إحد يشرب من بحر غزة بسهولة، فالقوة والإرهاب الصهيوني ستدمر ذاتها، وتدمر من حولها العالم وكافة الشرائع والقيم الإنسانية، وها هو شمشون المنفلت القاهر الجبار الأعمى يدمر معبد غزة ومنازلها على من فيها، وينتحر عالمياً وإنسانياً وأخلاقياً، ويصبح منبوذاً وشاذاً في المجتمع العالمي والضمير الإنساني، لم تنفعه عنترياته وعضلاته وصواريخه الفتاكة في العثور على دليلة، لا زال هذا الشمشون تائهاً يتخبط ويدور في طواحين وشوارع وحارات رفح وخانيونس والشجاعية.
شمشون الأسطورة المتعالية، صار اسماً لوحدات القتل والموت والقمع والاغتيالات، صار هو الدولة الصهيونية بكل أجهزتها الحربية، العابر للتاريخ والحدود، المدعوم أمريكياً وأوروبياً بكل أنواع الأسلحة، صار هو الطائرة والدبابة، صار هو المحقق والجلاد الذي يمارس التعذيب والاغتصاب في سجون الاحتلال، ونراه في كل أرجاء الأرض المحتلة، على الحواجز والمستوطنات، في القرى والمدن والمخيمات، شمشون هو الاحتلال، القمع والسلب والهدم والنهب والمداهمات والإعدامات، شمشون هو المدرسة والكتاب والمعسكر والتربية العسكرية العنيفة التي تنزع الصفة الإنسانية عن الآخر.
دليلة الغزاوية أهم نساء فلسطين على مر التاريخ، هي من ألقت القبض على عنق الحيوان الأسطوري، هتكت الرواية المزيفة والمختلقة للاحتلال، صارت دليلة هي رمز الإرادة الفلسطينية للخلاص من الظلم والقهر والاستعمار، الخلاص من شمشون الجندي والقاتل والمستوطن والسجان، دليلة هي كل امرأة فلسطينية، الأم والمربية واللاجئة والمقاتلة والشهيدة، دليلة المرأة الفلسطينية التي لم توقع على معاهدة تنازل أو خضوع أو استسلام.
عندما تسقط الأسطورة تسقط الصهيونية وركائزها، هكذا قالت دليلة الغزاوية وهي تقتحم القلعة الصهيونية، وتفكك أوهامها العسكرية والأمنية، لهذا قتلوا آلاف النساء الغزاويات معتقدين أنهم قتلوا دليلة، ولهذا اعتقلوا مئات النساء، ووضعوهن في ظروف جهنمية، معتقدين أنهم ألقوا القبض على دليلة، وتفاجأوا عندما وجدوا دليلة في القدس وفي مخيمات جنين ونور شمس وطولكرم وبلاطة وجباليا والدهيشة والجلزون، وجدوا دليلة تنهض وتتجدد وتتوالد فكراً ووعياً عبر كل الأجيال الغاضبة، تتحدى شمشون والصهيونية الدينية الفاشية وجرائمها المتمادية.
وقف الكاتب الأسير باسم خندقجي في روايته "قناع بلون السماء"، والتي فازت بجائزة البوكر للرواية العربية، أمام وفد سياحي أمريكي في قرية صرعة الفلسطينية قضاء القدس، والتي دمرت وهجر سكانها عام النكبة 1948، وقال لهم: سيداتي وسادتي لا تصدقوا الرواية التوراتية، هنا لا يقبع قبر شمشون وأبيه منوح، لا تصدقوا هذه الخزعبلات والترهات، حيث تقفون الآن تقع أنقاض وأطلال قرية صرعة الفلسطينية، لا يوجد شمشون هنا، لا يوجد بطل خارق، لا يوجد قبور للأبطال الخارقين، لا يوجد هنا سوى عظام أجداد دليلة.
يقول الشاعر معين بسيسو في مسرحيته (شمشون ودليلة): الماضي لا ينفصل عن الحاضر، دليلة الغزاوية التي قصت شعر شمشون الجبار، وجردته من سر قوته الخرافية، وتجاوزت الأسلاك الشائكة، هي نفسها دليلة الأرض والبقاء والتاريخ والمقاومة.
..............
عندما تسقط الأسطورة تسقط الصهيونية وركائزها، هكذا قالت دليلة الغزاوية وهي تقتحم القلعة الصهيونية، وتفكك أوهامها العسكرية والأمنية، لهذا قتلوا آلاف النساء الغزاويات معتقدين أنهم قتلوا دليلة.