حـرب فـوق طـاقـة الـبـشـر

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 

لا توجد حرب مقدسة، كل حرب هي فعل إجرامي، باستثناء حرب الدفاع عن النفس.  
لا أحد يحب الحرب، النفس البشرية ترفض العنف، وتأنف مناظر الدماء والخراب.. وأسوأ الحروب تلك التي يكون ضحاياها من المدنيين.. فالمجتمع يضم شرائح عديدة لا طاقة لها بالحرب، ولا تتحمل تداعياتها.. هناك كبار السن، والمقعدون، وذوو الإعاقة، والمرضى، والنساء، والأطفال.. لكلٍ منهم احتياجاته الخاصة ونمط حياته التي تغيرها الحرب؛ للحوامل والمرضعات والفتيات في طور البلوغ مطالب ملحّة جدا ومحرجة جدا، وهناك من يحتاج الدواء، أو الراحة، أو الرعاية الخاصة، وهناك من يخاف صوت القصف ويرتعد من دوي القذائف، ومن يحب الهدوء، ومن ينادي بالسلام، ومن يشتغل بالتجارة، ومن لديه صفقة مهمة، ومن يسعى لإكمال تعليمه، ومن يبني بيته حجرا حجرا، ومن يستعد للزواج والإنجاب أو السفر. 
الحرب تدمر كل شيء، وتضع كل شرائح المجتمع في ظروف لاإنسانية، وبالغة القسوة، وأمام مسارات إجبارية، لا يملكون إزاءها ترف الخيار، يواجهون واقعا أليما ومستقبلا مجهولا مخيفا.. وهذا شيء طبيعي ومتوقع لأن الناس المدنيين غير مؤهلين لخوض الحروب. 
حتى في الجيوش نفسها، لا يكون كل أفراد الجيش مقاتلين؛ وقيادة أي جيش تدرك ذلك، وبناء عليه تقوم بتوزيع الأفراد إلى مواقع غير قتالية، وأكثر أمنا، ويتم ذلك بناء على تنوع طبائع الأفراد واختلاف قدراتهم الجسدية والنفسية والذهنية، وبحسب تخصصاتهم وكفاءاتهم؛ فمنهم من يتفرغ لإعداد وجبات الطعام، أو في الاتصالات، أو في الأعمال الإدارية والمكتبية، أو في المراكز العلمية والتقنية، أو في صيانة المركبات، أو في الخدمات.
ومن يتم انتقاؤهم للأعمال القتالية يخضعون لتدريبات معينة، على استخدامات الأسلحة، ولتقوية أبدانهم على التحمل والصبر، ويتلقون دروسا في العلوم العسكرية، ولديهم زيهم الخاص المتناسب مع ظروف الحرب، ولديهم إمدادات تموينية وذخيرة، ويظلون على اتصال مع القيادة، وهكذا.. والأهم أنهم التحقوا بالجيش بإرادتهم، واختاروا بأنفسهم هذا النمط من الحياة، ويتلقون أجورهم مقابل ذلك. 
أما المدنيون فليس لديهم شيء مما سبق.. ومع أن المدنيين غالبا ما يكونون أول وأكبر ضحايا الحروب، إلا أن الدول والجماعات المتحاربة كانت تسعى لتجنيب المدنيين ويلات الحرب، على الأقل في جانبها، فكانت الجيوش تلتقي في موقعٍ ما وتقاتل بعضها بعضا، وفي مراحل ما من تطور الحرب قد ينتقل ميدان الحرب إلى المدنيين، فيكونون مجرد أعراض جانبية للصراع، وفي حالات أكثر تعقيدا تتعمد جهة ما إلحاق الأذى بمدنيي الطرف الآخر، كوسيلة ضغط.  
وهذه الحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على غزة تختلف عن سائر الحروب، فالمدنيون هم مادتها الأساسية، وهم الهدف بحد ذاته، وهم وحدهم من يدفع الثمن، هم المقاتلون (بأياديهم وصدورهم العارية)، وهم الصامدون، وهم الضحايا.. وهم ورقة الضغط التي يستخدمها الجميع، هم وقود الحرب وثمن الحرية ووسيلة النصر. 
على مدى سنة كاملة متواصلة وهم يتعرضون لقصف وحشي بلا توقف وبلا رحمة.. وقد بلغت معاناتهم حدا لا يُطاق، ومع ذلك لا يعبأ بهم أحد، حتى أشد مناصريهم يريدون لهم أن يموتوا بصمت، وألا يتذمروا، وألا ينتقدوا.. فأنتم مشاريع شهادة، والشعوب عادة تدفع أثمان حريتها! 
وبحسب الإعلام الحزبي والموجه فإن المجد والصيت كله للرجال المقاومين، أما المدنيون فهم مجرد أعراض جانبية للصراع! المقاتلون هم الأبطال، وهم الذين يمثلون المقاومة، وصمود غزة هو صمود المقاومة! أما المدنيون فهم على هامش الحدث، وعليهم الصبر والتحمل ومواصلة النزوح.. بل إن العديد من نشطاء الـ"تيك توك" أخذوا على عاتقهم مهمة تجميل واقع النزوح، وطمأنة شعوب العالم على أهل غزة، بأنهم جبابرة، ولديهم قدرات عجيبة على مواصلة الحياة والتكيف والإبداع!
عندما قررت "حماس" مواجهة إسرائيل اختارت الحرب (والحرب تختلف عن المقاومة)، ليس من خلال هجمات السابع من أكتوبر الواسعة والقوية، بل اختارت هذا الأسلوب بناء على فهم ودراية وتخطيط مسبق، فغزة تعرضت قبل أكتوبر لخمس حروب، وكانت "حماس" تستخدم أدوات وأسلوب الحرب، وليس أدوات المقاومة الشعبية، وخطابها الإعلامي والتنظيري خطاب حرب، ولغة تهديد ووعيد، وحديث عن وعد الآخرة، واستعدادات لاستلام بلديات يافا وحيفا.
كل هذا مشروع ومقبول لو كان لدى الفلسطينيين مقومات خوض حرب، أما وحالنا يعرفها الجميع، فإن خوض أي حرب لا بد أن يؤدي إلى هذه النتائج الكارثية.. فخوض حرب ضد إسرائيل يعني تلقائيا محاربة أميركا وأوروبا ومجلس الأمن وحلف "الناتو" والمنظومة الدولية برمتها.. والبديل عن الحرب ليس السكون والاستسلام (كما سيتبادر تلقائيا لدى العقل السطحي) بل يتمثل في خوض المقاومة الشعبية بأدواتها وأساليبها وخطابها، وهي مواجهة يمتلك فيها الفلسطيني الكثير من عناصر القوة التي تجعل تحقيق الانتصار فيها ممكنا، وغير ذلك لا يعني سوى الدمار والخراب وتقديم قرابين بشرية دون مقابل.
في فيديو مسجل يظهر غازي حمد القيادي في "حماس" وهو يقول: "لدينا أقوى ورقة ضغط على إسرائيل وهم الشعب، وحتى لو قتلت إسرائيل 20 ألفا، أو 100 ألف لن ننهزم".
وقد تبين أن إسرائيل قادرة بل وراغبة بشدة للوصول إلى هذه الأرقام المرعبة، والعالم بأسره لن يفعل لها شيئا. 
أوقفوا هذه الحرب.. قبل فوات الأوان.