نبدأ سلسلة معالجات جديدة. وهذا ما تفرضه تطوّرات درامية على جبهة الشمال. كنّا قد أشرنا في معالجات سبقت بعنوان "أسئلة الحرب"، أن ما يدور الكلام عنه في الأسابيع والأشهر الأولى للحرب، لا يعني، بالضرورة، أنه سيكون الوحيد، أو السائد، أو سيبقى على حاله، في نهايتها. فثمة تطوّرات تحدث في سياق الحرب، ودلالات تتكشف بعد صمت المدافع بوقت طويل. وهذا ما ينجم، في كل الأحوال، عن "ضباب" للحرب يسبقها، ويواكبها، ويراوح وقتاً قد يطول أو يقصر بعدها.
ومع هذا في البال، نجد أنفسنا إزاء تصعيد غير مسبوق، واحتمالات مختلفة، على جبهة الشمال. وهذه تُختزل، حتى الآن، في انهيار "قواعد للاشتباك" استقرت هناك بقدر من الثبات، بعدما فرضها حزب الله، قبل قرابة العام، ودفع الإسرائيليون نتيجتها ثمناً تمثّل في نزوح عشرات الآلاف من مواطني الدولة للمرّة الأولى في تاريخها. لأمر كهذا دلالات وتداعيات استراتيجية بعيدة المدى، ناهيك عمّا الحق بالإسرائيليين من جراح نرجسية.
لذا، وبالإضافة إلى "ضباب" الحرب على جبهتي غزة والضفة الغربية، يهطل الآن، بعد انهيار قواعد الاشتباك، ضباب كثيف على جبهة الشمال. وكما تمثّلت "أسئلة الحرب" في محاولات لاستكشاف، والبحث عن دلالات أبعد من الخبر اليومي، فإن الحرب على جبهة الشمال تنفتح على أفق غني الدلالات.
وأوّل ما يُلاحظ وسط ضباب كثيف على جبهة الشمال، أن انهيار "قواعد الاشتباك" يمكّن كل الناس تقريباً، ناهيك عن الفاعلين الأساسيين، من إسقاط ما يريدون على ما يحدث هناك. فمن يسعى للتدليل على جبروت القوّة الإسرائيلية لن يشكو ندرة الدليل والبرهان، ومن يسعى للتدليل على قوّة حزب الله، لن يشكو ندرة الدليل والبرهان.
لتحليلات هؤلاء وأولئك الكثير من ألوان الطيف، وينبغي التعامل مع نواتها الصلبة كتمثيلات صحيحة للواقع، بصرف النظر عن تأويلاتها الأيديولوجية. ومع ذلك، الاستغراق في مشهد التمثيلات، سواء لدحضها أو تأكيدها، يحجب جانباً كبيراً من غنى، وتعددية، المشهد، ودلالات بعيدة المدى على جبهة الشمال.
لذا، ثمة ما يبرر إنشاء وبلورة فرضية من شأنها اختزال مشهد الحرب على الجبهة المعنية، وتحقيبه، أي إيجاد صلة بينه وبين مشاهد سبقت وأُخرى متوقّعة ولاحقة. وفي سياق كهذا نبدأ بملاحظة تمهيدية هي إمكانية التأريخ لتحوّلات راديكالية طرأت على العالم العربي (الحواضر والإبراهيميات) وتحقيبها، بأحداث مفصلية تغطي عقداً، قد يطول أو يقصر، بعدد السنين، منذ أواخر السبعينيات، وتمثل المفتاح الحقيقي لفهم كل ما وقع خلال الفترة المعنية من أحداث.
ولنركّز أنظارنا، خاصة، على العقود الثلاثة الأولى في القرن 21، والألفية الثالثة. بدأت العشرية الأولى بهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وانتهت بثورات الربيع العربي، التي افتتحت، بدورها، العشرية الثانية، وانتهت بهجوم السابع من تشرين أوّل (أكتوبر) قبل عام تقريباً، الذي يفتتح العشرية الثالثة (تأخرت بحساب السنين، ونعيش أحداثها الآن).
احتل الأميركيون أفغانستان والعراق في حروب العشرية الأولى، في مشروع المحافظين الجدد لهندسة النظام الإقليمي. هُزم الأميركيون وفشل مشروعهم (تأخر الإعلان عن الهزيمة وفشل المشروع إلى ما بعد نهاية العشرية الأولى).
بدأت العشرية الثانية بثورات الربيع العربي، وحروب الثورة المضادة، وأدى تضافر تداعيات وثيقة الصلة بحروب العشريتين الأولى والثانية إلى انهيار حواضر المشرق العربي (المصرية والعراقية والسورية). انتهت العشرية الثانية، عملياً، في السابع من تشرين أوّل (أكتوبر) من العام الماضي، وبهذه النهاية يمكن التأريخ للعشرية الثالثة التي ستغطي العقد الحالي، وتمتد إلى ما بعده على الأرجح.
ولنلاحظ، هنا، أن المحرّك الرئيس للعشريات الثلاث، وما اقترن بها، ونجم عنها، من أحداث، كان قوى غير دولانية، خلافاً لما كان عليه الحال في السبعينيات، التي فرضت الغالب من تحوّلاتها دول، وجيوش نظامية. يُفسّر الفرق بين الفاعلين في قرن مضى، والفاعلين في القرن الحالي، معنى انهيار الحواضر في المشرق العربي على نحو خاص، وتدهور مقوّمات السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وبالتالي صعود قوى غير دولانية تسعى للاستفادة من فراغ ما بعد الدولة.
في تضافر التداعيات وثيقة الصلة بكل ما سبق، تتجلى حقيقة انهيار موازين القوّى في الشرق الأوسط. وهذا لا يعنينا إلا بقدر صلته بمحاولات أميركية وغربية، ومحاولة أميركية وغربية بالشراكة مع قوى محلية، بعد زيارة السادات للقدس (1977) لخلق نوع من النظام الإقليمي الذي يضمن أمن إسرائيل، وموارد النفط، وطرق التجارة الدولية، وأمن واستقرار الأنظمة الحليفة بطبيعة الحال. وقد تم هذا كله عن طريق التجربة والخطأ، وكان على شعوب المنطقة تسديد فواتير الفشل.
وبقدر ما تدل قرائن كثيرة، تزايدت على مدار العشريتين الأولى والثانية أحلام وأوهام الإمبراطورية لدى صنّاع السياسة الإسرائيليين، وكان الطريق إليها ممارسة دور القوّة الإقليمية، ووضع قواعد جديدة للنظام الإقليمي بشراكات وتحالفات مع الإبراهيميين، ووكلاء وطغاة محليين. وبهذا المعنى كان هجوم السابع من تشرين أوّل (أكتوبر) بمثابة صدمة أفاقوا منها على كابوس، في حرب لا تقتصر على رد اللطمة المُهينة بأحسن منها وحسب، بل وتحويل الحرب نفسها إلى دليل على الجدارة بالطموح الإمبراطوري، أيضاً.
لذا، تتجلى الحرب على جبهة الشمال، وما يتصل بها من رهانات، كمعركة من معارك الإمبراطورية، أيضاً، في بداية عشرية جديدة، تصارع فيها قوى غير دولانية، بوصفها قوى تاريخية فاعلة، مشروعاً إمبراطورياً. فاصل ونواصل.
المنطقة في قلب الحرب العالمية الثالثة
21 أكتوبر 2024