لا احد يعرف كيف ستنتهي جولة الحوار الدائرة في القاهرة بين وفدي «فتح» و»حماس» بخصوص تشكيل لجنة إسناد مجتمعي تتولى مهمة إدارة حياة الناس في قطاع غزة خلال الحرب وبعد الحرب، لكن المؤكد أن فشل مثل هذه الجولة سيشكل انتكاسة حقيقية تعكس قصوراً في فهم احتياجات الناس وما يتوقعونه.
يجب ألا يوجد مكان لفشل مثل هذه الجولة ليس لأن الآراء باتت أكثر تقارباً، ولكن لأن وضعنا الفلسطيني في قطاع غزة لم يعد يحتمل. لا ترف ولا رفاهية في كل ما يجري. لم يعد شيء اسمه غزة بعد أن تم محو المكان بشكل كامل وبعد أن باتت سكينة تهجير من تبقى من سكان شمال غزة على رقاب المواطنين.
إن العناد والمكابرة لن يجلبا لشعبنا إلا المزيد من الوجع والمزيد من الألم. نحن بحاجة للخروج من النفق المظلم والبحث عن نقاط نستطيع التفاهم عليها من اجل مصلحة المعذبين في غزة الذين لم يعودوا يؤمنون بأي شيء، على الأقل لو تم الاتفاق على الحد الأدنى من خطوط المصالحة فإننا نعطيهم أملاً أن ثمة من يتفهم أن الاحتياج أكبر من الاحتجاج وأن الواقع أكبر من الأفكار والمواقف، وعليه فإن نجاح ما يجري في القاهرة يجب ألا يكون موضع مساومة أو تفكير وتمحيص. لننتبه، لا أحد يمتلك مصير ما يجري في غزة لأن غاية الاحتلال ما زالت إفراغ غزة من أهلها. تذكروا أن قضية التهجير لم توضع في الأدراج كما أن الركون على حدوث معجزات أو حرب خارجية يتم إنقاذ غزة فيها يشبه كثيراً نفس ما جرى خلال النكبة حين انتظرنا النصر من الجيوش العربية مع التقدير للتضحيات الكبيرة التي قدمتها تلك الجيوش لكن لم يكن ثمة إرادة سياسية بمنع ما يجري، وهذا موضوع آخر.
لم يعد ثمة غزة. تمت إبادة المدينة والقطاع واغتيال المكان وتصفية الماضي والحاضر وبالتالي القضاء على أي فرصة لاستعادة المستقبل الذي اغتيل هو الآخر. لم يعد عندنا شيء ولم يعد هناك الكثير الذي يمكن فعله. فقط التمسك بالمستقبل هو الشيء الوحيد الذي يمكن لنا أن نقوم به وإذا أردنا التمسك بالمستقبل علينا أن نقدم أفكاراً جريئة للتعامل مع أزمة الانقسام، أي أفكارا تصلح للمستقبل وتصلح لأن تضيء القليل من عتمة الطريق. لا نريد ضوءاً في نهاية النفق، نريد أن نشم رائحة الشمع حين يحترق فنؤمن بأن ثمة ضوءا قد يكشف عتمة الليل. المصيبة أننا لا نفعل ذلك وأننا لا نشعر بما يجري. فإذا كنا في قضية مهمة مثل تلك لا ندرك حجم معاناة شعبنا وحجم عجزنا عن إحداث تغير في كل ما يحدث حولنا فكيف لنا أن نفكر حقاً في المستقبل؟
المستقبل هو الشيء الوحيد الذي يجب أن نراهن عليه لأنه كل ما نملك. فيما الحقيقة لا يوجد لدينا أي شيء يمكن أن يجعل المستقبل مضيئاً، ثمة ما يمكن لنا أن نفعله من أجل أن نؤسس لهذا المستقبل. الناس يريدون هذا المستقبل حتى يقدروا على الصبر وعلى الصمود وعلى اجتياز الغمة. الكثير من البلاغة مثل قليلها والقليل من العطب يصبح عفناً، والناس لم يعودوا يؤمنون بشيء خاصة وهم ينتظرون الموت الجماعي وهم يشاهدون غزة تستباح وتتم محاصرة جباليا والقضاء على الذين ظلوا فيها وكابدوا الجوع والعطش والموت لأكثر من عام، لم يتبق لنا شيء إلا أن نمنح الآخرين الأمل، نمنحنهم بعضاً من اليقين أن ثمة غدا يمكن انتظاره. على الأقل لو لم ننجز ذلك، نقول لهم، إننا نعمل على تقليل قسوة الانقسام عليهم. من المرعب أن تنتهي الحرب، وليتها تنتهي، والانقسام يتحكم بإيقاع حياتنا. علينا أن نكون على قدر أوجاع شعبنا وننتبه أن الناس وهم يموتون الآن في جباليا لا يفكرون بنا ولا بشيء بقدر تفكيرهم بالنجاة وما لم نقدم لهم القليل من الاحترام ونتفق فإننا نجازف بأننا نشارك في دفعهم لليأس ولفقد الأمل والتفكير في الغد. أظن والظن من باب اليقين هنا أن هذه الجولة لو فشلت فثمة الكثير الذي يجب التفكير فيه حول مستقبل قدرتنا كحركة وطنية وتنظيمات على إدارة حياة الناس، وربما جدارتنا فيما نقوم به من فعل سياسي.
التفكير في لجنة إسناد تقوم بمهام حكومية تتعلق بإدارة حياة الناس هو تفكير إيجابي في هذا الاتجاه على طريق إنجاز المصالحة ومن ثم الوحدة الكاملة. صديق لي ضحك وهو يسأل: أي وحدة؟ فكل شيء تم تدميره في غزة. ومع ذلك وعلى هذه الصفحة منذ أشهر كتبت حول الحل الجزئي للمصالحة وضرورة البحث عن تشكيل لجنة مؤقتة بمهام حكومية لا تكون مفصولة عن السلطة بل جزء من مكوناتها من أجل إدارة حياة الناس. والمؤكد أن نجاح هذه الخطوة سيكون مقدمة على طريق استعادة وحدة المؤسسات بين غزة والضفة الغربية وعودة الجهاز البيروقراطي والوظيفي بتكامله للعمل في قطاع غزة. وقلنا في وقتها: ما يدرك كله لا يترك جله.
وعليه يجب التعامل مع الأمر وكأنه صراع على السلطة أو تنافس على الحكم بل هي مسؤولية وطنية من اجل خدمة الناس وعدم الوقوف متفرجين وهم يذبحون فالتاريخ لا يرحم. وأظن أن مثل هذه اللجنة ستكون مهمة في طريق عودة كل الأمور إلى طبيعتها، أما التنافس فيمكن تركه جانباً لوقته على الأقل. من المؤلم أن يتم طرح مصالح حزبية تتعلق بغزة فيما يجب التفكير في أوجاع الناس ومن المؤلم النظر إلى بعض التفاصيل بوصفها اكثر أهمية من القضايا الكبرى. في القضايا الكبرى، التفاصيل ليست ذات أهمية لأنه ما لم يتم تحقيق القضية الكبرى فلا تفاصيل.