يبدو أن تصريحات رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي غادي أيزنكوت التي طالب فيها جنود جيشه وقوات الأمن الأخرى بعدم التسرع في إطلاق النار بكثافة نحو الأطفال الفلسطينيين طالما أنهم لا يشكلون خطراً على عناصر الأمن لم تكن مجرد زلة لسان أو موقف عابر يعكس صحوة ضمير أو انحيازا لأخلاق قتالية مزعومة تعودنا على سماعها وكأن الاحتلال فعل أخلاقي، بل هي في الواقع ناجمة عن دراسة عميقة أجراها الجيش على الأحداث التي واكبت هبة الشباب وعمليات استهداف الإسرائيليين في القدس والمناطق المحتلة وبعض مناطق إسرائيل، وهي تضاف إلى مواقف عبر عنها قادة عسكريون في مناسبات عديدة استفزت بعض الساسة الإسرائيليين الذين لم يرق لهم ما يسمونه تدخل الجيش في السياسة.
ما نشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن تقدير موقف قدمه رئيس شعبة الاستخبارات في جيش الاحتلال هرتسي هليفي في شهر كانون الثاني الماضي ينسجم تماماً مع الخط الذي يتبناه الجيش والذي عبر عنه رئيس هيئة الأركان، فقد اعترف هليفي بأن قوات الاحتلال قد استنفدت كل ما لديها من إجراءات عسكرية في مواجهة الهبة وأنه إذا لم تستأنف المفاوضات السياسية فالأمور ستتدهور إلى مستويات أخرى من التصعيد بدخول تنظيم «فتح» على خط العمليات ضد الاحتلال. وقبل ذلك تحدث ضباط كبار في الإدارة المدنية وفي قيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال بأن الوضع لن يهدأ قريباً وسيستمر لفترة طويلة إذا لم يحدث اختراق سياسي وسيذهب نحو المزيد من العنف والفوضى.
الذي يقوله ايزنكوت يعبر عن إدراك بأن قتل الأطفال والشبان الفلسطينيين لن يحقق الردع الذي توقعته الحكومة الإسرائيلية التي منحت الجيش والشرطة والمواطنين الغطاء والشرعية بل والحرية المطلقة في قتل الفلسطينيين على شبهة تهديد حياة الإسرائيليين. ولعل وزير الأمن الداخلي غلعاد أردان هو التعبير الأكثر وضوحاً عن موقف الحكومة فهو يؤيد قتل الفلسطينيين مباشرة إذا تجرؤوا على مهاجمة إسرائيليين، وجماعات المستوطنين لا يروق لها أن تسمع أي صوت ينادي بالتريث قليلاً قبل القتل الذي أضحى إعدامات ميدانية بشهادة مؤسسات ومواطنين إسرائيليين.
وكل عملية قتل تجر ردود فعل إضافية وتجربة بعض القرى والمناطق الفلسطينية خير دليل على الإلهام الذي يسببه استشهاد فتى أو شاب للآخرين من أصدقاء أو أقرباء أو معجبين. وجيش الاحتلال أدرك خطأ الاحتفاظ بجثامين الشهداء وما يمكن أن يولده ذلك من تفاعلات وتأثيرات ميدانية، ولهذا السبب لم يعد يحتفظ بالجثامين على عكس موقف أردان والشرطة الإسرائيلية. الحقيقة أن الجيش الإسرائيلي هو الذي يشعر أكثر من غيره بحرارة الميدان وما يمكن أن تؤول إليه من تطورات، وهو الذي عجز بكل ما لديه من قوة وإجراءات عن وضع حد لهذه الهبة والمواجهات التي يقوم بها الفتيان والشباب على وجه الخصوص. وأدرك أن الموضوع يتعدى ما يشاع أنه تحريض من السلطة على العنف كما تدعي وسائل الإعلام الإسرائيلية والقادة السياسيون وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء.
ولهذا يقلق من احتمالات التصعيد الكامنة في هذه الهبة إذا اقتصر رد الفعل الإسرائيلي على إجراءات عسكرية ميدانية وعقوبات تفرض على الفلسطينيين. وهذا القلق يضاف إلى قلق آخر غير واضح المعالم في هذه اللحظة ولكنه قد يكون ذا تأثير عميق على مجريات الأوضاع في المنطقة وعلى أمن إسرائيل، وهو التداخلات الكثيرة في الأحداث والحروب الجارية في أكثر من مكان وعلى وجه الخصوص في سورية. فلم يعد مفهوماً كيف ستتصرف كل القوى المتناحرة والمتحاربة بعد فترة سواء في حال التوصل إلى تسويات أو استمرت الحرب. وهذا ينطبق على الجماعات غير الدول المستقرة، وإسرائيل تراقب عن كثب ما يحدث وتتدخل بحدود مثل القيام بعمليات قصف لمواقع الجيش السوري أو ما تقول إنه مخازن أو قوافل سلاح في طريقها إلى حزب الله.
ولا تدري إسرائيل ما الذي يمكن حدوثه مع الجيش السوري إذا بقي نظام الأسد واستطاع الصمود وفرض تسوية ما على خصومه، فالجيش السوري استطاع ترميم جزء من قدراته وهو يتمرس في الحرب ويحصل على أسلحة متطورة للغاية ويحظى بدعم روسي هائل.
وإيران وحزب الله سيكونان في الجوار، ولا يعلمون ماذا سيحل في نهاية المطاف بكل المجموعات الجهادية والسلفية. الشعور الإسرائيلي بالقلق لا ينبغي أن يمنعنا كذلك من القلق على شبابنا وأطفالنا الذين يقتلون بدم بارد ويذهبون إلى الموت ببساطة شديدة، وفي هذا السياق ينبغي على الجميع تحمل المسؤولية للحفاظ على حياة هؤلاء الشبان الذين يمثلون مستقبلنا والجيل الذي سيقود في المستقبل.
قد لا يستطيع أحد أن يمنع شاباً قرر أن يستشهد، ولكن هناك ضرورة في توجيه الناس نحو نضال شعبي واسع النطاق ومجدٍ أكثر سياسياً، ويحرج إسرائيل ويزيد عزلتها وهذا واجب القوى السياسية المختلفة التي لا تزال ضعيفة التأثير على ما يجري في الميدان، وهي بحاجة لتجديد نشاطها واستقطاب الشباب وتحديد رؤية واقعية لإحداث التغيير المطلوب.