تحقيقات حزب الله متواصلة لتحديد مصادر الخرق البشري والتقني.. القتال براً: أخطاء الماضي قائمة واتكال كامل على الطيران والنار

14243-1409_owner_import.jpg
حجم الخط

كتب ابراهيم الأمين :

 انطلقت الحرب الشاملة للعدو ضد لبنان وفق برنامج أولي، استند إلى عمل استخباراتي وتقني هائل، قبل أن تنتقل إلى المرحلة التالية من خلال العمليات البرية التي لا تفتقر أيضاً للتقنيات، لكنها تحتاج إلى البشر قبل كل شيء. وفي هذه المرحلة يجري فحص القدرات الفعلية لجيش الاحتلال وحجم احترافيته، كون ما يحصل منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، يشير إلى أن العدو يظهر اتكالاً كبيراً على خطط أمنية عمل عليها لسنوات طويلة. وقد تبيّن أن ما كنا نعرفه عن نشاطه الأمني كان قليلاً جداً، وأن هذا النشاط مثّل القاعدة المركزية لحربه الجديدة. مع ذلك، فإن العدو الذي عرّفته هذه الأنشطة إلى الحزب بصورة مكّنته من ضربه بقوة، يجد نفسه أمام أزمة أكبر، حيث لا يعرف كيف يقفل الثغرة المتعلقة بالوصول إلى آلية القتال المباشر مع المقاومين.

بدأ العدو حربه بضربات قاسية تستند إلى برنامج عمل الاستخبارات الفعّالة. وأظهرت الأحداث أن معلوماته كانت دقيقة جداً حول تفاصيل حسّاسة تخص المقاومة وآلية عملها وحركة قادتها. لكنّ غاراته المجنونة دلّت أيضاً على أنه لا يعلم كل ما يحتاج إلى معرفته. ومع ذلك، فقد باشرت أجهزة المقاومة عملية تدقيق واسعة ودقيقة، وهي عملية مستمرة حتى اللحظة، وهدفها ليس معرفة مصادر العدو فقط، أو التمييز بين البشري منها والتقني، بل أيضاً معرفة آلية عمل العدو، بما يعطّل ما تبقّى في برنامج عدوانه القائم على أساس استخباراتي. وقد قطعت المقاومة شوطاً كبيراً في التحقيقات، مكّنها من الحصول على إجابات حول أسئلة شديدة التعقيد. لكنّ أحداً لا يعرف هذه النتائج، وسيكون من الصعب توقع إعلانها في وقت قريب. غير أن الدرس الأول والأهم، هو أن آليات العمل انقلبت رأساً على عقب، خصوصاً على صعيد الوحدات الجهادية، وبات واضحاً أن هناك تغييراً نوعياً، فرض تغييرات هائلة على صعيد بناء عناصر القرار وآليات تنفيذه. ويمكن الاستدلال على هذا الجديد بندرة المعلومات عما يفكّر فيه الحزب، ليس عند العموم فقط، بل خصوصاً عند كثيرين ممن كانوا يعرفون الكثير عما يجري في وحدات حزب الله القيادية السياسية أو العسكرية. وكلما زاد عطش الناس إلى ما يُعرف بـ«الإحاطة الشاملة» لما يقوم به الحزب، عنى ذلك أن المقاومة تنجح في استخلاص العبر، ولو أن البعض يحب الثرثرة طوال الوقت، لكنّ بعض الوقائع باتت تفضح جيش من يدّعون معرفة بواطن الأمور وظاهرها.

وإذا كان الجمهور قد تعوّد على إطلالات القائد الأممي الشهيد السيد حسن نصرالله، لشرح ما يحصل، بأسلوبه الخاص، فإن على هذا الجمهور التكيف مع الواقع الجديد حيث لم يعد السيد بيننا، بعدما ترك لنا سلّماً من المبادئ والقيم والثوابت. والمقاومة باتت أمام واقع جديد. وهناك قيادة جماعية تدير الأمور بطريقة مناسبة. ومن المفيد مغادرة منطق المقارنة، ومن المفيد أكثر التخلي عن عادة الفضول، لأن ما يفيد الآن هو ممارسة الانضباط والتعقل في كل ما نقوم به، أو حتى ما نعبّر عنه.

وإذا كانت المقاومة تخوض معركة استخلاص العبر، وهي في قلب معركة غير مسبوقة، إلا أن جيش الاحتلال لا يبدو أنه في وارد تغيير أسلوبه الاستعراضي في القتل، خصوصاً أن بعض قادته في الحكومة والجيش، يملكون مهارة كبيرة في «تضييع الإنجازات». فقد طلب بعض «عقلاء العدو» منه البناء على «إنجازاته» والتقدم سريعاً نحو تسوية سياسية، إلا أنه يصرّ على السير قدماً في الحروب المفتوحة التي يعمل على توسيعها سريعاً لتصبح شاملة لدول وشعوب أكثر في المنطقة.

مشكلة قادة العدو تعود إلى «الاستعلاء» الذي يتحكم بسلوك مجتمع بكامله. وهو مبدأ يبرر القتل الجماعي، باعتباره الطريق الضروري لكي وعي الخصم قبل فرض الاستسلام عليه. ويوم أمس، عندما نجا رئيس حكومة العدو من محاولة اغتياله بمُسيّرة فشل جيشه في اكتشافها أو اعتراضها، لم يكن لدى بنيامين نتنياهو، وكل فريقه السياسي والأمني، سوى التصرف باستعلاء، انطلاقاً من فكرة أنهم يستغربون أن يفكر أحد، أي أحد في هذا العالم، بأن يمس برأس السلطة في إسرائيل. وحتى عندما حاول «بيبي» إظهار قوته بشريط دعائي قصير، تصرّف بناءً على قناعته بأنه لا يُمسّ، قبل أن يقول لنا إن من يفكر، فقط يفكر، بالوصول إاليه، سيدفع الثمن غالياً. والثمن، في عرف مجنون العصر، هو الموت الجماعي. وهذا العقل الاستعلائي هو ما يسود الآن بين ضباط العدو وجنوده الذين يقاتلون على الحدود. ويتضح يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، أنه جيش يراهن بقوة على أمرين أساسيين: التقنية العالية والكثافة النارية.

لكن هل هذا يكفي لتحقيق المهمة؟

بريد الميدان يقول بوضوح إن الأمر لا يسير على هذا النحو. فالعدو الذي استبعد المدرّعات عن معاركه الأولى على طول الحدود، فعل ذلك خشية من الوسائل القتالية القادرة على تعطيل هذا السلاح، وهو محقّ في ذلك، إذ نجحت المقاومة في تدمير أكثر من نصف مدرّعاته التي دفع بها إلى الميدان في الجنوب. وهو لم يجد حيلة سوى تكرار ما سبق أن جرّبه في لبنان، وقام به في غزة أخيراً، مع فارق أن القوة النارية التي يستخدمها في ما يُعرف بـ«التمهيد الناري» كانت كبيرة إلى درجة غير مسبوقة. كما تظهر الوقائع أن حجم استخدام سلاح الجو، الحربي والمُسيّر، غير مسبوق في الحروب. ومع ذلك، لا يبدو أن لدى جيش الاحتلال وسيلة أخرى لفتح الطريق أمام قواته للتقدم. وفي كل يوم، يتبين أنه لم يتعلّم من حروبه السابقة لا في غزة ولا في لبنان. وتفيد أخبار الميدان بأنه يكرّر الأخطاء نفسها التي ارتكبها عام 2006، حتى إنه بدا شديد الضعف، عندما حاول الاحتيال بإرسال سيارات رباعية الدفع وملالات مُسيّرة عند بعد، ليكتشف أن المقاومة لا تتعامل مع رغباته الميدانية، بل تستخدم تكتيكات عملياتية تلقائياً بحسب ما تراه المجموعات الموجودة على الأرض مناسباً من إجراءات دفاعية أو هجومية في مواجهة تقدم قوات الاحتلال. وهو ما أتاح القيام بمناورات، على شكل كمائن معدّة مسبقاً، أو على فتح الطريق أمام العدو للتقدم، ثم مهاجمته ودفعه إلى الانسحاب، وهو ما جعل الإصابات في صفوف قواته كبيرة جداً. ورغم الرقابة غير المسبوقة التي يتحدث عنها الصحافيون في كيان الاحتلال، فإن ما سُمح بنشره دلّ على وجود ما يقارب الـ500 إصابة بين قتيل وجريح. ويؤكد صحافيون في الكيان أن إدارات المستشفيات باتت تحتاج إلى إذن الرقيب العسكري قبل الإجابة عن عدد المصابين الذين وصلوا إليها، قبل أن يحصل اتفاق ضمني بأن يُترك أمر الحديث عن القتلى إلى الجيش، فيما تحصر المستشفيات عدد الجرحى بأصحاب الإصابات الخطيرة فقط.

وإذا كان العدو يحاول ابتكار أساليب جديدة للحصول على استقرار ولو لساعات في مناطق بعينها، فهو يجد مشكلة كبيرة بالتعامل مع أنواع الأسلحة التي يستخدمها رجال المقاومة. وما عرضه العدو من عتاد قال إنه عثر عليه في نقاط حدودية، يكفي للإشارة إلى ما يوجد في حوزة مجموعات المقاومة، في كل نقاط انتشارها، سواء عند نقاط الاشتباك الأمامية أو نقاط التموضع الخلفية. وهو ما كان سبباً لرفع الصوت بين جنود وحدات النخبة الذين يشكون من “أوامر غير منطقية» تصدر عن ضباطهم، ومصدر الشكوى ليس غياب الخطط المجدية، بل في كون هؤلاء الجنود لا يملكون أسلحة تعالج المشكلة، ما يجعل طلباتهم بالدعم قبل وأثناء التقدم تقتصر على الإسناد الناري الهائل، وهو إسناد يُستخدم أيضاً لتأمين الانسحاب.
ها نحن، نقضي الأسبوع الثالث من العملية البرية. والكل يعرف أنها العملية التي ستحسم المعركة مهما بالغ العدو في القصف والغارات ضد المدنيين في العمق اللبناني. وهي المعركة التي سترسم مستقبل الوضع على الحدود أمنياً وعسكرياً وسياسياً أيضاً. وإذا كان العدو لا يمانع في ارتكاب المزيد من الجرائم ضد المدنيين في كل لبنان، فإن مسار عملياته بدأ يكشف عن ثغرة كبيرة في سلوكه كجيش. وهي ثغرة بدأت المقاومة بالنفاذ منها إلى نقاط ضعفه، وتتصرف على أساس أن المعركة قد تمتد لوقت طويل، وطويل جداً. ومع ذلك، ما من داع للتكهن بما ستقوم به، كون الميدان وحده كفيلاً بتزويدنا بالخبر اليقين.
حتى ليل أمس، لم يكن العدو قد تمكّن من احتلال قرية بكاملها على طول الحدود. والأخبار الواردة من الميدان، تخبر الكثير عن ما يحصل هناك، وفيها حكايات المقاومين الذين يقاتلون ببسالة لا يقدر أحد على تحمل وقعها وقدرتها ولا على تحمل كلفتها. لكنها حكايات، ستُكتب أكيداً، لتُعرض أمام العالم كله تبدو قصصاً خيالية، لولا أن أبطالها، سيظل بينهم الأحياء في هذه الأرض، أو في السماء حيث يؤمنون.

المصدر: صحيفة الأخبار