تمكنت دول العالَم أن تعيد صياغة مفهوم البطولة بما يحقق لها النصر والازدهار وركوب قطار العالم الجديد، بعد أن كانت البطولاتُ في السابق بطولاتٍ في المبارزة بالسيوف والرماح والمصارعات، غيَّرتْ دولٌ عديدة هذا المفهوم للبطولة بمفاهيم جديدة بما يلائم العصر!
استطاعت اليابان مثلاً أن تطوي إلى الأبد مفهوم البطولة التقليدي المتمثل في هيمنة طائفة الساموراي، حاملي السيوف، المحاربين الأقوياء، استطاع الإمبراطور ميغي، عام 1871 أن يطوّع بالقوة مَن بقي من طائفة الساموراي، وعندما أصرّ بعضهم على تحدي حداثة اليابان لم يكن أمام الإمبراطور سوى سحقهم بالقوة المسلحة، لكي تتمكن اليابان من ركوب صاروخ المستقبل في بدايات القرن العشرين!
وتمكّنت الصين كذلك من تغيير مفهوم بطولة الحروب والغزو إلى بطولة أخرى تجارية واقتصادية، حولت البطولة من حماية حدود الصين بالسلاح وبناء سورها العظيم المحمي بالكتائب العسكرية إلى أحدث دولة في تكنولوجيا الصناعات فائقة التأثير والتطور، وها هي اليوم تتمرد على سورها العظيم وكل الأسوار والحدود، شرعت في بناء أعظم إنجاز في العالَم وهو طريق الحرير عام 2019، الذي سيربطها بأوروبا عبر شبكات من القطارات والطرق البرية والبحرية، وهي بهذا قد أدركت معنى البطولة في عصرنا الراهن!
أما أميركا فقد استحدثَت مفهوماً جديداً للبطولة، بعد أن ألغت بطولة الكاوبوي وأزالتْ من تاريخها البطل، بوفالو راعي البقر، والبطل، بيل بيكت أشهر الرماة بالمسدس والبندقية حامل المسدّسين المحشُوَّين بالرصاص فوق ظهر حصانه، واستحدثت بدلا منه كاوبوي البورصات وبطولات صناعات التكنولوجيا والطائرات ووسائل الاتصال والبنوك والشبكات الرقمية، ولم تكتفِ أميركا بذلك بل أحكمت سيطرتها على العالم بامتلاك أقوى أسلحة العصر، وهو الإعلام، تمكنت بهذا السلاح من إحكام السيطرة على مليارات البشر، فاستحدثوا أبطالاً جُدُداً، بل غيتس، مارك زوكربيرغ، وأيلون ماسك، وتيد تيرنر، وغيرهم، كذلك فعلت فرنسا حيث طوتْ البطولات النابليونية السلفية، ومحت ألمانيا الحربية الهتلرية، وبريطانيا الاحتلالية، وقبائل الهون الاسكندنافية، كلَّ البطولات العسكرية، لتصبح دولاً جديدة تنافس على المستقبل الصناعي والرقمي!
سوف يظل مهاتير محمد الرئيس الماليزي السابق أبرز نماذج البطولة في الدول الآسيوية، لم تكن بطولته في عضلات جسده وسيفه ورمحه وسلاحه، بل كانت بطولته في إنقاذ ماليزيا من الإفلاس عام 1997 ، وتغيير نظام التعليم ليلائم العصر، ما أهّله للفوز في الانتخابات خمس مرات، نقل ماليزيا إلى مصاف الدول الصناعية، هذه هي البطولة!
إلا نحن، الفلسطينيين والعرب، فقد ظللنا نؤمن بأن البطولة لا تكون إلا في ساحة المعارك الحربية، وأن مقياس البطولة الوحيد للبطل العربي ونموذجنا الأول والأخير هو عنترة بن شداد العبسي، وأبو زيد الهلالي سلامة، والظاهر بيبرس!
كشف لي أستاذي دكتور عبد الحميد يونس أستاذ الأدب الشعبي في جامعة القاهرة في أواخر ستينيات القرن الماضي، تأثير أساطير بطولات العرب وأثرها في سلوكنا وطريقة تفكيرنا، قال: «ستظل صورة البطل العربي السلفية تصوغ الشخصية العربية، بما يمنع تطورها، وهي صورة البطل قوي الجسم شاهر السيف، لابس الدرع، أما الاستشارة والفكر والعقل فهو عند العرب يُثبطُ البطولة ويورث الجُبن!
اعتاد العرب منذ فجر التاريخ حتى الألفية الثالثة أن يحكموا على البطولات حكماً سلفياً، حكماً يُقاس فقط بمقدار صمود الأبطال حتى الموت، ولا يمكن أن تتحقق البطولة إلا بالموت، مع العلم أن الشعوب العربية اعتادت أن تتهم هؤلاء الأبطال في حياتهم بالجبن والديكتاتورية، وفي طرفة عين فإنها تعتبرهم أبطالاً بعد موتهم بساعة واحدة، وترفعهم إلى مرتبة الأنبياء!
تذكرت أشهر قصص بطولات القرن الخامس عشر الميلادي عام 1431م وهي قصة حقيقية ليست أسطورية حدثت في فرنسا، عندما تداول الفرنسيون شائعة، بأن فتاة في التاسعة لها قدرات خارقة يأتيها وحيٌ من السماء، يجعلها تتنبأ بما سيجري من أحداث، صدقها كل الشعب الفرنسي وآمن بها الملك شارل السابع، واستعان بنبوءاتها لكي يتمكن من هزيمة أعدائه الإنجليز ممن كانوا يسعون لإزالته عن العرش، واتخذها مستشارا عسكريا له! غير أن الإنجليز تمكنوا من أسر هذه الفتاة الصغيرة، وهي، جان دارك، الملقبة بعذراء أورليان وحاكموها وحرقوا جسدها بالنار وألقوا رفاتها في البحر، ولم تتمكن بقدراتها السحرية من منع هذا الحرق، وكانت في الثلاثين من عمرها! لم يُسدل الستار على هذه الفتاة، بل ظل أنصارها طوال خمسة قرون يعتقدون بأنها كانت ملهَمة من السماء، لذلك أعلنتها الكنيسة الكاثوليكية قدّيسة عام 1920م وأصبحت القديسة جان دارك!
أدرك، المتنبئ شاعرنا العربي الفيلسوف الحكيم عام 950م أي قبل واحد وعشرين قرناً منزلة العقل والمشورة والثقافة التي يجب أن تتوفر في البطل، والرأي والمشورة على الشجاعة حين قال:
«الرأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعانِ// هو أولٌ وهي المحلُ الثاني
فإن هما اجتمعا لنفسٍ حُرّةٍ// بلغتْ من العلياء كُلَّ مكانِ»!