ساهم ما حققه طرفا الحرب الدائرة في الشرق الأوسط منذ أكثر من عام، من نجاحات تكتيكية في استمرارها، إلى جانب عوامل سياسية خاصة بالأطراف مجتمعة أو كل على حدة، ولهذا لم تضع الحرب أوزارها، ولو أن أحد طرفيها، استطاع خلال العام الذي مضى توجيه الضربة القاضية للخصم، أو ما كان يسميه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو بالنصر الحاسم أو الكامل، لكانت الحرب قد انتهت وتوقفت بعد أسابيع أو أشهر قليلة من انطلاقها، لكن وبعد مرور عام وأكثر على تلك الحرب، فإن أي مراجعة، وإن كانت تبدو للوهلة الأولى أنها مبكرة، لأن المراجعات عادة ما تُجرى بعد انتهاء الحروب، واتضاح المنتصر والمهزوم، يمكنها أن تلحظ أن الحرب في سنتها الأولى قد شهدت مداً وجزراً، أو تبدلات، لكن وجهة الحرب الأساسية، يبدو أنها بدأت في التحول خلال الأيام الأخيرة فقط.
وتبدو هذه الأيام فارقة في وجهة الحرب، ارتباطاً بحلول يوم الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستُجرى بعد أسبوع واحد فقط، ومما لا شك فيه، أن أياً من يكون الفائز فيها، كمالا هاريس أو دونالد ترامب، فإن سيد البيت الأبيض الجديد سيغير بشكل واضح، وربما حاسم في سياسة الولايات المتحدة، وحتى في دورها وموقفها من الحرب، وهذا أمر مهم جداً، نظراً إلى أن أميركا كانت وما زالت هي الدولة الوحيدة التي يمكنها أن تضغط على إسرائيل ضغطاً فعالاً، لدرجة أن توقف الحرب، إن أرادت أميركا إيقافها، ونظراً إلى أن إسرائيل سعت إلى استمرار الحرب وصولاً إلى يوم الانتخابات الرئاسية الأميركية، لأن هدفها الأساسي كان زج أميركا بالذات في حرب مباشرة مع إيران، لتقوم بتدمير الدولة الشرق أوسطية لصالح إسرائيل وبالنيابة عنها، كما فعلت قبل عقود مع العراق.
أما مسيرة الحرب خلال عامها الأول تقريباً، فقد سارت في طريق حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، ومترافقة مع مواصلة وتصعيد «كاسر الأمواج» في الضفة الفلسطينية، ولكن أيضاً مع ظهور جبهات الإسناد، في جنوب لبنان، وفق قواعد الاشتباك ولكن بشكل يومي، بين حزب الله وإسرائيل، وفي اليمن لأول مرة، وكذلك جبهة العراق، وكانت جبهات الإسناد تعتمد على إطلاق الصواريخ والمسيّرات على إسرائيل، فيما تركزت جبهة الإسناد من اليمن على منع التجارة الخارجية مع إسرائيل، بقطع الطريق على السفن الإسرائيلية والأجنبية المتجهة نحوها، أما على الجانب الآخر، فقد ساندت أميركا وبريطانيا إسرائيل استخباراتياً في غزة، وعسكرياً في اليمن، بما تضمن شن الغارات الجوية على القواعد والمدن اليمنية، وحاولت أكثر من مرة أن تغلق تلك الجبهات، وأهمها جبهة جنوب لبنان بتحريك البوارج العسكرية في البحرين الأحمر والمتوسط، وظل الحال هكذا طوال العام تقريباً، إلى أن استنفد الجيش الإسرائيلي كل ما يمكن فعله في قطاع غزة، وحتى لا يضطر مع انغلاق أفق صفقة التبادل إلى وقف الحرب، انتقل إلى الشمال، وبدأ حربه ضد لبنان.
وقد حاولت إسرائيل، الذهاب إلى المقطع الأخير من الحرب، مبكراً، ذلك كون حرب الاستنزاف طويلة الأمد في غير مصلحتها، وهي التي تحارب بالجو وبالاستخبارات، ومن ثم يدخل جيشها البري في طريق سالكة، حيث رافقت الحرب باغتيالات عديدة لشخصيات إيرانية في سورية وفي إيران نفسها، وكانت إيران تعلم الهدف الإسرائيلي من كل تلك الاغتيالات، فاعتمدت سياسة الصبر الإستراتيجي لتفويتها، وربما لكسب الوقت حتى تستعد لمحاربة إسرائيل وربما أميركا، بعد امتلاك قوة صاروخية مهولة، وربما معها القوة النووية، وفعلاً لم ترد إيران على العديد من الاغتيالات بحق رجالها وكان أهمهم بالطبع قاسم سليماني، لكن مع مرور عام آخر خلال الحرب، تطورت خلاله القوة الإيرانية وربما تطورت خلاله عملية التخصيب لليورانيوم، مقابل تآكل القوة العسكرية الإسرائيلية وانهيار مكانة إسرائيل الدولية، فإن التحول في وجهة الحرب بات قريباً، أو على الأبواب.
بدأت إيران تتبع سياسة الرد على الاغتيالات الإسرائيلية، منذ مطلع نيسان الفائت، حين اغتالت إسرائيل محمد رضا زاهدي في قنصلية إيران بدمشق، وذلك بعد أن أكد محور المقاومة عملياً خلال أشهر كانت قد مضت على الحرب، على توازن الردع، حيث لم تعد إسرائيل تعربد، وتشن حروبها دون أن تواجه أي مقاومة، أو أي رد فعل، خاصة وهي تستخدم - فقط سلاحها الجوي والمخابراتي - وفعلاً بعد نحو أسبوعين قامت إيران بإطلاق مئات الصواريخ والمسيرات التي تحتاج وقتاً طويلاً لتصل إسرائيل عبر أجواء عراقية وأردنية، سمحت للمضادات الأميركية باعتراض معظمها قبل أن تصل إلى اسرائيل في حين اعترضت إسرائيل معظم ما وصلها بقبتها الحديدية، وبمقلاع داوود، وحيتس، أي أن الضربة الإيرانية التي سميت الوعد الصادق كانت للتحذير فقط، ولم تحدث أي خسائر لا مدنية ولا حتى عسكرية تذكر، لكنها كانت المرة الأولى بعد سنوات من التوتر بين البلدين، التي يجري فيها إطلاق نار من إحدى الدولتين ضد الأخرى، وإن كانت إسرائيل سابقاً قد وجهت ضربات استخباراتية بالاغتيالات في قلب إيران.
وقد كانت محطة رفح، أي اجتياح رفح مطلع أيار من العام الحالي، فاصلة لجهة تنفيذ نتنياهو إصراره على اجتياحها لأنه اعتبرها آخر معاقل حماس، في ظل رفض علني دولي وإقليمي، وفي ظل أن النصف الأول من السنة الأولى للحرب قوبل بتظاهرات دولية حاشدة منددة بإسرائيل وأميركا، وتخللته جلسات كثيرة لمجلس الأمن والجمعية العامة، وعقد محكمتي العدل والجنايات جلسات، أصدرت بعدها قرارات تطالب بوقف الحرب، وأعلنت خلالها أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب ترقى لشبهة الإبادة الجماعية، ومطالبة المدعي العام من قضاة المحكمة إصدار مذكرتي اعتقال لكل من نتنياهو ويوآف غالانت، أي أنه كان ذروة الضغط على نتنياهو لوقف الحرب، ولو حتى عبر صفقة التبادل كما حاولت أميركا، في تلك الفترة، مع الضغط الداخلي الإسرائيلي، والذي وصل إلى انسحاب بيني غانتس وغادي ايزنكوت وهما قائدان عسكريان سابقان من كابينت الحرب الإسرائيلي، وبات نتنياهو محشوراً في الزاوية إلى أن نجح في استخدام الورقة التي تجيد إسرائيل استخدامها، وهي الورقة الاستخباراتية، بجملة اغتيالات، لقادة من حزب الله، أبرزهم فؤاد شكر، وإبراهيم عقيل، مع إسماعيل هنية في طهران.
وهكذا صار محور المقاومة بركائزه في إيران ولبنان واليمن بعد قصف الحديدة، مطلع آب، على موعد مع رد اختلفت التقديرات حوله، إن كان سيكون جماعياً يربك إسرائيل أو متفرقاً، وهنا لعبت الحيلة الأميركية دورها، بعرض صفقة وقف الحرب على إيران مقابل عدم الرد على اغتيال هنية على أرضها، لكن بعد أن مر شهر وفشلت مفاوضات الصفقة، ردت إيران برد لم يكن تحذيراً هذه المرة، فأعلنت إسرائيل أنها سترد في نفس الليلة، خاصة وهي كانت منتشية باغتيال حسن نصر الله، وبدء العملية البرية ضد لبنان.
بعد حرب برية متعثرة في غزة، عادت إسرائيل لتتفوق وتقترب من الضربة القاضية، باغتيالها نصر الله وهاشم صفي الدين ومن ثم يحيى السنوار قبل أسبوعين، لكن سرعان ما بدا أن كلاً من حزب الله وحماس قد تجاوزا اغتيال قائديهما، فيما كان العدوان الإسرائيلي على إيران باهتا وهو ليس رداً لأن وعد إيران الصادق 2 كان رداً على اغتيال هنية على أرضها، بحيث تحولت الحرب مع ما قاله الإسرائيليون والإيرانيون بعد إطلاق إسرائيل مائة طائرة شبح نحو إيران، إلى حرب الردع، أكثر منها لحرب إعادة تشكيل الشرق الأوسط، فيما التحول الأهم ظهر خلال الأسبوع الأخير وتجلى يوم أول من أمس، في اليوم الذي حددته إسرائيل لإحياء ذكرى الطوفان، بسقوط القتلى الإسرائيليين بشكل يومي بما يزيد على عشرة قتلى وعشرات الجرحى، وهذا العامل، سيكون مهماً وحاسماً وعامل الضغط الأكبر على إسرائيل لوقف الحرب، ذلك أنها تحتمل خسائر الاقتصاد والعتاد والمعدات الحربية، لأن أميركا تعوضها عنها، أما الخسائر البشرية التي تضاعفت والمرشحة لأن تكون بشكل يومي، فإن تأثيرها أمر آخر، وإذا كان الجيش الإسرائيلي قد فقد مئات الجنود خلال عام في غزة، فإنه فقد العشرات خلال شهر في لبنان، وحيث إنه من شبه المؤكد أن تتصاعد خسائر إسرائيل البشرية من العسكريين، وربما لاحقاً من المدنيين، فإن الحرب ستتوقف بعد الانتخابات الأميركية، ما لم يفز ترامب ويكون له رأي آخر.