لدى كل شعب رموزه الوطنية التي يعتز بها، منها معنوية مثل العَلم والنشيد الوطني، ويوم الاستقلال.. أو مادية مثل الأشخاص الذين أثروا في تاريخ البلد، وأسهموا في تحرره وتقدمه.. الرموز مهمة لأنها توحد الشعب وتستنهض قواه، وتعبر عن هويته، وتعزز انتماءه.. مع التأكيد على رفض فكرة تقديس وتأليه الأشخاص مهما علا شأنهم، وعلى ضرورة التفريق بينهم كأشخاص، وما يمثلونه من حالة رمزية، مع أهمية نقد ومراجعة سيرهم وأفكارهم.
في الحالة الفلسطينية، يجري ومنذ عقود تشويه الرموز الوطنية وبطريقة ممنهجة ذات مضامين وأهداف سياسية وحزبية، فمثلا وحتى أمد قريب كانت بعض الجماعات الإسلامية ترفض فكرة الوطن، وحب الوطن، والتمسك به، وحماية حدوده، وتقول، إن الوطنية نزعة جاهلية، وإنها نقيض الوحدة الإسلامية، وتُضعف الشعور بالتآخي بين المسلمين.. وبعض الأحزاب القومية تلاقت مع هذا التوجه من منطلقات قومية (شوفينية)، أو بحجة أن ذلك تكريس للثقافة القُطرية والنزعة الإقليمية، وإعاقة لمشروع الوحدة العربية.. طبعا هذا الطرح نسمعه فقط عند الحديث عن فلسطين!
وبمناسبة الحديث عن فلسطين، لنتذكر مقولة محمود الزهار المسجلة صوتا وصورة حين وصف فلسطين بأنها مجرد نكاشة أسنان، وأنها لا تُرى على الخارطة، وأن مشروعهم أكبر بكثير من فلسطين، بل إنهم لا يرونها أساساً.
وبالمثل، جرى تجاهل وتقزيم العَلم الفلسطيني، وتم استبداله بالرايات الحزبية في الجنازات والتظاهرات.. أو رفض حمله بحجة أنه تكريس لسايكس بيكو! وأيضا لا نسمع مثل هذا الحديث إلا عن العَلم الفلسطيني! وكذلك جرى التعامل بدون احترام مع النشيد الوطني، بذريعة أنه تكريس للوطنية الجاهلية، ولسايكس بيكو! أو أن الموسيقى حرام!
حالة السخرية والاستهزاء نجدها في يوم الاحتفال بذكرى إعلان الاستقلال، دون التفريق بين الاستقلال الفعلي الذي عادة يتم إعلانه بعد التحرر من الاحتلال، وبين إعلان بيان الاستقلال، بوصفه ميثاقا وطنيا يضع أسس المستقبل، ويحدد معايير ومفاهيم وطنية عامة تكون بمثابة برنامج نضالي بعيد المدى.. وهؤلاء يتوهمون بأن تحرير فلسطين كان يجب أن يتم بعد أعوام قليلة من إعلان بيان الاستقلال! في حين أن «ميثاق الحرية» في جنوب إفريقيا تمت صياغته من قبل المؤتمر الوطني الإفريقي (تأسس العام 1908) مع بقية القوى الوطنية في العام 1955، بينما الاستقلال الفعلي تم العام 1994.
هل هذا التشويه مجرد مصادفات؟ أم هو مشروع متكامل يُراد منه نسف الأسس النظرية والمعنوية التي ترتكز عليها الثورة الفلسطينية!
استكمالا لهذا المشروع، جرى تشويه صورة الثورة الفلسطينية ومنذ اليوم الأول لانطلاقتها، إما باتهامها بأنها عميلة للغرب (مرة بريطانيا، ومرة أميركا..)، أو بأنها عميلة لحلف السنتو! أو أنها أداة إسرائيلية لتوريط الأنظمة العربية التقدمية لخوض حرب خاسرة مع إسرائيل!
يظن البعض أن الهجوم الإعلامي على السلطة الوطنية بسبب فسادها، أو لسياساتها الانهزامية وتنسيقها مع العدو.. وهذا غير صحيح، هذا الهجوم بدأ قبل ذلك بكثير، وفي كل مرة كانت الحجج مختلفة، بدأ الهجوم على منظمة التحرير منذ تأسيسها واتهامها بأنها أداة بيد عبد الناصر، أو أداة بيد الغرب، وأن الهدف منها تحييد العالم العربي والإسلامي عن معركة التحرير.. فالجيوش والشعوب كانت في زحفها نحو فلسطين، فأتت المنظمة وقالت لهم، توقفوا، لا داعي أن تتعبوا أنفسكم، نحن من سيتولى التحرير!
واستمر الهجوم الإعلامي على «فتح» وسائر فصائل المنظمة دون توقف، أثناء خوضها معركة الكرامة، وأثناء مواجهتها للأنظمة، وتصديها لمشاريع التسوية، وأثناء تصديها لجيش الاحتلال وصمودها أمامه في بيروت.. أي قبل تعاطيها مع أي تسوية سياسية.
فالقوى التي كانت تتهم المنظمة بالتفريط والتنازل عن 78% من أرض فلسطين ها هي تقبل بـ1.5% فقط من فلسطين، لتقيم عليها إمارتها، فارضة واقع الانقسام وانفصال شطري الوطن!
إذاً، المسألة في حقيقتها لا علاقة لها بالتنازلات، ولا بالخط السياسي لمنظمة التحرير، فقد تبين لاحقا وبوضوح كافٍ أنَّ من كان يرفض سابقا، ويتهم ويخوِّن.. مستعد للتعاطي مع التسوية بشروط أقل بكثير من التي كان يرفض أن يقبل بها غيره!
في السياق ذاته، يأتي موضوع الحديث عن الفساد، فطالما تم التركيز على الفساد في منظمة التحرير ثم الفساد في السلطة، بتوصيفات ديماغوجية، واتهامات ومبالغات وفبركات إعلامية.. وكأنَّ الفساد موجود فقط في السلطة! طبعا لا ننفي وجود فساد، ولا نقبل به، ونرفض تبريره.. لكن التساؤل هو لماذا تركيز هؤلاء على السلطة فقط، مع تجاهل كامل ومقصود لأشكال الفساد الأخرى في الإقليم؟ والتي هي أشد خطرا وأكبر حجما بكثير!
في هذا الإطار، لا بد من التأكيد على أن منظمة التحرير والسلطة الوطنية و»فتح» تتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية هذا التشويه، سواء بمسلكيات وأخطاء قياداتها، حيث كانت توفر مادة إعلامية مجانية للخصوم، أو بسبب سوء أدائها الإعلامي وقصورها عن مواكبة الأحداث، والأهم لأنها لم تقم بإجراء المراجعات النقدية والنقد الذاتي لكشف الأخطاء وتلافيها، ولم تقم بتوضيح وشرح التغيرات التي كانت تجريها على خطها السياسي، ومصارحة الشعب بالواقع بشفافية.
وبمواكبة تشويه الرموز المعنوية، كان يجري تشويه الشخصيات المركزية في الثورة، وكان ياسر عرفات أكثر من طاله هذا التشويه، نظرا للحمولات الرمزية التي كان يمثلها، بدأ التشويه بالتشكيك في نسبه وأصله، والتعمد بإساءة تفسير مواقفه وتصرفاته، حتى حين كان في مقدمة جنوده أثناء حصار بيروت، أو أثناء حصاره في المقاطعة.
وكذلك جورج حبش، لما كان يمثله من رمزية وطنية تسمو فوق الطائفية، وما يجسده من نبل الأخلاق والتفاني من أجل فلسطين، مع ذلك كان بالنسبة لهؤلاء مجرد «مسيحي» ولا تجوز عليه الرحمة!
لا يتسع المجال لذكر أمثلة أخرى، وحتى لا يُفهم المقال وكأنه دفاع عن أشخاص، لكن ينبغي الإشارة إلى أن مسلسل التشويه ما زال مستمرا حتى وقتنا الراهن، وهناك فضائيات ووكالات أنباء ومواقع إلكترونية متخصصة في التشويه والتشكيك والإساءة وإثارة الفتن.
والسبب الحقيقي لهذا النهج أنَّ من يقومون عليه مهمتهم إفشال وتشويه خصومهم، لأنهم مختلفون معهم في الأساس فكريا وأيديولوجيا.. أما سياسيا؛ فهم يسعون لسحب البساط من تحتهم تمهيدا لإسقاطهم، ومن ثم وراثتهم.. ولسان حالهم يقول، بيدي، لا بيد عمرو.
الهدنة والمسؤولية الوطنية الجماعية
24 نوفمبر 2024