ساعات قليلة، وتنتهي واحدة من أكثر الحملات الرئاسية الأميركية إثارة، وذلك بإجراء الاقتراع العام، ثم ساعات أخرى وتعلن النتيجة عن الفائز بمقعد الرئاسة في البيت الأبيض لمدة أربع سنوات قادمة، تنتهي في مثل هذا اليوم من العام 2028، من بين المرشحين الديمقراطية كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالي، والجمهوري دونالد ترامب الرئيس السابق، الذي سجل سابقة بالترشح مرة أخرى، بعد أن هزم وهو رئيس في الانتخابات السابقة أمام المرشح الرئاسي في ذلك الحين جو بايدن ونائبته هاريس.
والحقيقة أن تاريخ أكثر من مائتي عام من الجمهورية الأميركية، يظهر بأن الرئيس لا يمثل أكثر من بوصلة للحكم، فهو ليس حاكماً مستبداً، مهما أظهر من قسوة أو سطوة على الأمم والشعوب الأخرى وحتى من جبروت على القضاء الدولي، والمنظمة الدولية، الأمم المتحدة، نظراً لما تمثله دولته، الولايات المتحدة من مكانة دولية، باعتبارها تقود العالم بأسره وفق ما سمي بالنظام العالمي الجديد الذي تلا النظام ثنائي القطب الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة، وانهار مطلع تسعينيات القرن العشرين الماضي.
وما يدل على ذلك إضافة الى الطبيعة الشخصية لرؤساء أميركيين دخلوا البيت الأبيض خلال السنوات الأخيرة، التي أقل ما يقال فيها، بأنها شخصيات مهزوزة، لا تمتلك كارزيما القادة، ونقصد جورج بوش الابن، دونالد ترامب وجو بايدن، وهؤلاء رؤساء يظهرون الضعف عند مقارنتهم برؤساء، أمثال رونالد ريغان، جون كنيدي وحتى باراك أوباما، وكأن الوقت كلما تقدم ضعفت المواصفات الاستثنائية في الرئيس الأميركي، حتى بات كما لو كان دمية أو مهرجاً، كما كان عليه حال ترامب في ولايته السابقة، وحتى وهو مرشح لأحد الحزبين اللذين يتحكمان بمقود القيادة الأميركية منذ تشكيل الاتحاد الفدرالي الى اليوم.
وصحيح أن أميركا دولة مؤسسات، أي أنها محكومة بسلطة القانون والنظام المؤسساتي الذي يفصل بين السلطة التنفيذية التي يمثلها البيت الأبيض، وسلطتَي القضاء التي تمثلها المحكمة الفدرالية، والبرلمان اي الكونغرس بغرفتيه: الشيوخ والنواب، أي لا يمكن للرئيس أن يظهر كقائد قوي كما هو الحال في دول المشرق، الذي حتى لو لم يكن مستبداً، أي محكوماً بسلطة مطلقة او شبه مطلقة للملك أو الرئيس، فإن الرئيس فيه يتمتع بسلطات وصلاحيات واسعة، يمنحه إياها الدستور، وتستند الى الموروث الشعبي، لكن مع ذلك، فإن معظم الرؤساء الأميركيين في العقود الأخيرة، أي منذ أن تزعمت أميركا نظاماً عالمياً أحادي القطب، أي منذ عهد بيل كلينتون، ومن تبعه جورج بوش الابن، باراك أوباما، دونالد ترامب، وجو بايدن، لا يظهرون كرؤساء أقوياء، كما أشرنا، لا بالمقارنة مع رؤساء دول أخرى، مثل الدول الغربية، ولا بالرؤساء الأميركيين السابقين، ويبدو بأن للأمر علاقة بالتحولات الكونية خلال العقود الثلاثة السابقة، أي ارتباطاً بالنظام العالمي الجديد أحادي القطب الأميركي نفسه.
وفي استعراض سريع لما حاول رؤساء تلك الحقبة إنجازه أو تحقيقه، يظهر جلياً ما أظهره أولئك الرؤساء من فشل، فالرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، بدأ عهده بالتوازي مع اتفاق إعلان المبادئ، أو اتفاق أوسلو، ورغم أنه أولاه اهتماماً خاصاً، والكثير من وقته وجهده وجهد إدارته، وذلك لارتباطه بإسرائيل الدولة العزيزة على قلب أميركا، ورغم أن الفضل في أوسلو لا يعود لأميركا التي فشلت قبل كلينتون خلال عامي 91_92 في التقدم بمسار مدريد، الى أن أنجز الفلسطينيون والإسرائيليون أوسلو وحدهم، عبر قناة خلفية متوارية عن الأنظار، إلا أن كلينتون وطوال ولايتيه، ما بين عامي 1992_2000 لم ينجز الاتفاق النهائي، حتى وهو يحاول في آخر أيام ولايته أن يخرج بذلك الاتفاق بعد أن اعتزل في كامب ديفيد مع كل من الزعيم الراحل ياسر عرفات، ورئيس حكومة إسرائيل في ذلك الوقت إيهود باراك لمدة أسبوعين تقريباً.
أما جورج بوش الابن، فقد أعلن فور دخوله البيت الأبيض، بأنه لن ينخرط في ملف الشرق الأوسط كما فعل سابقه، ثم سرعان ما وجد نفسه غارقاً في ملف آخر، كان هو ملف الحرب الأميركية على كل من أفغانستان، بعد ان صعقت «القاعدة» الأميركيين فجأةً في عمليتَي برج التوأم والبنتاغون، ومن ثم إقدامه بتحريض إسرائيلي على غزو العراق، حيث بقي في سجله التاريخي ذلك العار ملتصقاً بما شاهده العالم في سجن أبو غريب، وفي بغداد والمدن العراقية من قتل وتدمير، تماماً كما فعل في أفغانستان، لكن الأهم أن بوش الابن، ظهر كدمية بيد الإسرائيليين، الذي دفعوه لخوض حرب بالنيابة عنهم ضد بلد عربي، ما زاد من كراهية كل العرب ومعظم المسلمين لأميركا، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث ظهرت على صورة الاستعمار القديم متجددة، وحديثة، ولم يقض على «القاعدة»، وحتى زعيمها أسامة بن لادن قتل لاحقاً، وورثت «داعش» «القاعدة»، فيما عاد طالبان للحكم وباتفاق مع الأميركيين!
أما الديمقراطي باراك أوباما فقد بدأ عهده بخطاب تاريخي في القاهرة، اعتبره خطاب تصالح مع العالم الإسلامي، بعد ذلك الشرخ الذي وقع بين ذلك العالم وأميركا بعد حربيها في عهد بوش الابن ضد أفغانستان والعراق، واعتقد أوباما كما سلفه الديمقراطي كلينتون بأن التوصل الى حل للصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، يشكل المدخل لتلك المصالحة بين أمريكا والعالم الإسلامي كله، فبذل جهداً كبيراً، عبر وزيري خارجيته خلال ولايتيه هيلاي كلينتون وجون كيري، ما بين عامي 2008_2016 دون جدوى، ولم ينجح في إجبار إسرائيل وبنيامين نتنياهو رئيس حكومتها في ذلك الوقت، على التفاوض الجدي الذي يمكنه أن يصل الى الحل الوسط السياسي التاريخي، وحتى أن نتنياهو أغلق الباب في وجه التفاوض منذ عام 2014، دون أن يفعل له أوباما شيئاً، وفقط أمر مندوبه الدائم في مجلس الأمن بالامتناع عن التصويت في الأيام الأخيرة له في البيت الأبيض، وبعد أن أعلن عن فوز دونالد ترامب بالولاية التالية، وكان ذلك في 23 _12_2016، على مشروع القرار ضد الاستيطان والذي صدر تحت الرقم 2334.
تلا أوباما الجمهوري دونالد ترامب، فظهر كرئيس مهرّج، سارع الى محاولة احتواء كوريا الشمالية، عبر التهديد والوعيد، ثم سرعان ما تراجع، بعد ذلك بدأ بتوزيع الكراهية في كل أنحاء الدنيا، ضد المهاجرين، وضد الملونين وكل من هو غير أبيض، وفرض ضرائب إضافية على التجارة العالمية مع الشركاء الكنديين والأوروبيين، ثم سارع الى تحصيل أتاوة الحماية الأميركية لدول الخليج العربي، ثم أقدم على ما هو أسوأ والذي تسبب في احتقان الشرق الأوسط، بما فتح الباب واسعا للتطرف اليميني واللاهوتي الاسرائيلي، للعبث بمستقبل المنطقة بما تجني ثماره اليوم، في صورة الحرب الدائرة، حين أوقف تقليد الرؤساء السابقين بتنفيذ قرار قديم للكونغرس يوصي بنقل السفارة الأميركية الى القدس، واعترف بالضم الاستعماري الإسرائيلي للجولان السوري المحتل، ثم بدلاً من محاولة التوصل للحل الفلسطيني الإسرائيلي، دفع الى تطبيع علاقات إسرائيل بأربع دول عربية.
ثم جاء الديمقراطي جو بايدن الذي شغل ولايته الوحيدة بالفشل في العودة للاتفاق النووي مع ايران، ثم باشعال أتون الحرب في أوكرانيا، ثم بالفشل أمام إسرائيل مجدداً بعد أن كان أعلن عن أنه سيعيد فتح القنصلية الأميركية في القدس، ثم ظهر كأضعف ما يكون في مواجهة نتنياهو رغم أنه كان بدوره في أضعف حالاته، وهو يواجه وضعاً داخلياً منقسماً ومعارضة سياسية وجماهيرية، وذلك خلال حرب إبادة إسرائيلية، اجتمعت الدنيا كلها ضدها، إلا بايدن.
ويبدو أن السبب في كل ذلك يعود إلى ممولي حملات المرشحَين، اللذين وإن كان يبدو على السطح بأن من يوصلهما للبيت الأبيض هو حزباهما، إلا أن العنصر الحاسم بيد ممولي حملات الترشيح، ويتأكد ذلك حين نعلم بأن المرشحَين يُنفقان ما يقارب مليارَي دولار خلال الحملة الانتخابية، يجمعاها من نحو مئة ملياردير، يبدون كالمراهنين أو كمن يصرف على دعاية انتخابية خاصة بأعماله التجارية، وآخر التقارير تشير الى أن حملة هاريس أنفقت مليار دولار خلال 3 أشهر، فيما أنفق ترامب 400 مليون، بينما كان ترامب وبايدن في الحملة السابقة أنفقا 1،85 مليار، وقد كشفت لجنة الانتخابات الفدرالية عن أن دعم ترامب جاء من 50 مليارديرا، تقدمهم تيموثي ميلون بمبلغ 150 مليون، ثم إيلون ماسك بـ 120 مليون دولار، في حين تلقت هاريس الدعم من 76 شخصية ثرية أميركية.
الاختيار الصعب بين هاريس وترامب
24 أكتوبر 2024