تـرامـب ومـسـتـقـبـل الـمـنـطـقـة

تنزيل (19).jpeg
حجم الخط

الكاتب: د علي الجرباوي

 

بعد الإعلان عن فوز ترامب بالانتخابات الأميركية، من المتوقع أن يُشغل بال الكثيرين في منطقتنا موضوع الكيفية التي سيعالج فيها الرئيس العائد ملفاتها المتشابكة، وخصوصاً ما يتعلق بالحرب الطاحنة الدائرة في قطاع غزة ولبنان.
لمحاولة استكناه الكيفية التي سيقوم فيها بذلك، من الضروري وضع ملامح الخطوط العريضة للمحددات التي تؤطر شخصيته ورؤيته لطريقة المعالجة التي سينتهجها، مباشرة بعد أن يستلم المنصب في 20 كانون الثاني القادم. ويمكن الإشارة هنا إلى النقاط الأساسية التالية:
أولاً، أن ترامب صاحب شخصية نرجسية، وهي شخصية مبنيّة على القناعة بأساسية ومركزية دورها، وتتمتع بكرزمية خاصة بها. هو مهووس بذاته، يؤمن بأنه المحور الذي يعتمد عليه مستقبل أميركا، وبكونه الشخص المختار الذي يقع عليه واجب ومهمة أن يعيد لها المجد مجدداً. هذا النوع من الشخصيات خطير، وبالتحديد إذا ما تبوأ منصباً سياسياً، واستلم موقعاً قيادياً، ذلك لأنه يعتقد بعظمته، وبأنه فوق القانون، بل إنه هو القانون، ولا يؤمن بالامتثال للقواعد والقيود التي تفرضها عليه المؤسسات التي يعتبرها معيقة لتحقيق رؤيته وبلوغ هدفه. لذلك، هو يقوم بتطويعها لخدمة مسعاه، ويتخطاها إن شعر بأنها تحاول تشكيل كوابح له، ويفرض عليها إرادته التي يعتبرها فوق إي اعتبار. يكون هذا النوع من الشخصية شخصانياً في تعاملاته مع الآخرين، تحكم علاقاته معهم مدى استعدادهم لقبول رؤاه وتقبُّل فرضها عليهم، وهو ارتجالي في قراراته، يبنيها على الحدس والمشاعر، لذلك يمكن بشكل مفاجئ أن تشوبها تحولات وتقلبات غير منظورة.
ثانياً، أن ترامب يؤمن بالقوة، وبفرض الهيمنة الأميركية على العالم بواسطة انتهاج سياسة ردعية صارمة، تقوم على اتخاذ سياسات حمائية وخطوات عقابية ضد الغير، ولكن مع تحاشي التدخّل المباشر والوقوع في ورطة الحروب الخارجية. هو يفضّل الإملاء عن بُعد، وتحقيق انصياع الآخرين باتّباع وسائل الضغط الاقتصادي والسياسي، ولا يفضّل الانشغال وتبديد المصادر الأميركية في حروبٍ يعتقد بأنه قادر على تحقيق أهدافها بدون الاضطرار لشنّها. وإن كان لا بدّ من الدفاع عن آخرين، فعليهم التكفّل بالمصاريف. وهو يُفضّل استقرار المناطق الحيوية للمصالح الأميركية، كمنطقة الشرق الأوسط، ويعتبر الفوضى التي تعمّ أرجاءها مُضرّة لتحقيق الأهداف الأميركية الأعمّ والأهم، ككبح جماح الصعود الصيني.
ثالثاً، مع أنه يؤمن بالقوة، إلا أن ترامب ينحو نحو تحقيق غاياته عبر عقد «الصفقات». العملية السياسية، بالنسبة له، لا تعدو كونها كالمعاملة التجارية، تقوم في أساسها على «الأخذ والعطاء». وطالما أنه يمتلك القوة الأكبر، فإن قدرته التأثيرية على فرض معالم «الصفقة» تكون الأكبر. كل شيء، بالنسبة له، خاضع لمبدأ التبادلية والتبادل، طالما انه لا يُسبب له خسارة. لذلك، لا أصدقاء دائمين، ولا تحالفاتٍ مستمرة، بل كل ذلك يخضع لاعتبارات المصلحة. لهذا السبب، فإن الاعتقاد السائد أن ترامب صديق دائم لنتنياهو، وحليف مستمر لليمين الإسرائيلي، هو اعتقاد مبالغ فيه، إذ لا إمكانية لضمان الكيفية التي يحسب فيها ترامب حساب «الصفقات»، أو التنبؤ بردود أفعاله على من يعتقد بأنه يعيق له، أو يُخرّب عليه، «صفقة» يريد لها أن تتحقق. يُحبّ ترامب من يمالئه، ويحمل الضغينة لمن يظن بأنه أساء إليه. لذلك، قطع الاتصال بنتنياهو لمدة ثلاث سنوات متواصلة، كون الأخير قام بتهنئة بايدن على فوزه بانتخاباتٍ لم يعتقد ترامب بأنه خسرها. وما عاد مجدداّ للاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي، إلا عندما بدأ بالاستعداد للبدء بحملته الانتخابية الجديدة. كانت المصلحة، وليس الودّ، هي الدافع الأساسي وراء ذلك.
أخذاً بالاعتبار كل ما سبق، يُتوقع أن يقوم ترامب، بعد استلام المنصب، بالسعي لاستعادة الاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط، وإنهاء الحرب الدائرة فيها، كون ذلك يصبّ في تحقيق المصالح الأميركية بعيدة المدى، ويفسح المجال أمامه للتفرّغ لمواجهة الصين. من أجل استعادة هذا الاستقرار، سينطلق ترامب من الحاجة الملحة لإيجاد حل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، كونه أصبح على دراية بأن لا استقرار حقيقياً في المنطقة إن استمر الاهتمام منصباً على إدارة هذا الصراع، وليس إيجاد تسوية تنهيه بشكل دائم. وبما أن تطبيع وجود إسرائيل في المنطقة ما زال بانتظار ترسيم علاقة رسمية علنية بين المملكة العربية السعودية معها، ولأن الموقف السعودي الرسمي يربط بين هذا التطبيع مع ضرورة الدخول في مسار مضمون لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولة فلسطينية، فإن ترامب سيعمل، في اعتقادي، على دمج مبادرتيه السابقتين؛ «الاتفاقيات الإبراهيمية» و «صفقة القرن»، اللتين قام بهما خلال فترة ولايته السابقة، ويطرحهما معاً في مبادرة جديدة، تكون مترابطة مع بعضها، وواضحة في رؤيتها التنفيذية.
سيسعى ترامب في هذه المبادرة للتوصل إلى «صفقة» تربط، بالطريقة التي يجدها مناسبة وفعالة، بين تحقيق مصالح إسرائيل، ومطلب السعودية، والاستجابة للحاجة الفلسطينية، وتحجيم الدور الإيراني المتنامي في المنطقة. ستتضمن «الصفقة» رزمة مترابطة من الإجراءات، يقع في نواتها الاستعداد لاعتراف أميركي بإقامة دولة فلسطينية، تطبيقاً لـ «حل الدولتين»، يأخذ أمر تثبيت وجودها الفعلي خطوات إجرائية ممتدة زمنياً. ستتشكَل هذه الدولة الموعودة من أجزاء مترابطة «اصطناعياً» في الضفة الغربية، هي مجموعة من المعازل الجغرافية التي ستكون المحاشر للفلسطينيين، والتي يمكن الضغط على إسرائيل لتوسيعها بالقدر المستطاع من منطقة (ج). يضاف إلى ذلك قطاع غزة الذي سيصبح مركز الدولة الجديدة، وتتركز عليه المساعدات لإعادة تأهيله بعد الدمار الشامل الذي مُني به. في نهاية المطاف، ووفقاً لما يمكن أن يُقدم عليه ترامب، لن تكون هذه الدولة الموعودة؛ «دولة البقايا»، مستقلة أو سيادية بالكامل، وإنما ستُمنح بعض رموز السيادة التي ستظهر في قطاع غزة أكثر منها بالمعازل الملحقة بها في الضفة. وبالطبع، فإن تحقُّق ذلك لن يتأتى إلا بعد اتخاذ كافة الإجراءات الأمنية الاحترازية لمنع أن تشكّل هذه الدولة أي خطر مستقبلي على إسرائيل.
سيوفي التزام ترامب بإقامة دولة فلسطينية، وهو امتداد للعرض الذي تضمنته «خطة القرن» التي أعلن عنها خلال ولايته السابقة، بمطلب السعودية للتطبيع مع إسرائيل، والشروع فيه فعلياً. وسيعرض ترامب ذلك كإنجاز في غاية الأهمية، طالما سعت إليه وانتظرته إسرائيل. ولكن، بالمقابل، فإن هذا الثمن الذي سيقدمه ترامب للسعودية، لن يلقى الترحاب في معظم الأوساط السياسية الإسرائيلية، وخصوصاً داخل أجنحة الائتلاف اليميني الحاكم. ولكن، سيكون لدى ترامب «جزرة» يرضي فيها إسرائيل بأطيافها السياسية المختلفة، وهي ضم الجزء الأكبر من منطقة (ج) لإسرائيل، والحصول على اعتراف أميركي بذلك. هذه ستكون جائزة الترضية الكبرى التي يصعب أن تتحقق لإسرائيل إلا من خلال ترامب. وفي حال واجه ترامب ممانعة من الائتلاف الحاكم حالياً في إسرائيل، فإنه لن يتورع عن ممارسة الضغط الفعال عليه، وللدرجة التي من الممكن أن يسعى جدياً لهندسة انتخابات مبكرة تستبدل هذا الائتلاف بآخر أكثر تقبّلاً لـ «الصفقة».
مع أن ترامب لا يولي للجانب الفلسطيني الكثير من الأهمية والاهتمام، ويعتبرهم «عقبة» تُشوّش عليه مسعاه لإعادة هندسة المنطقة بما يحقق استقرارها، إلا أنه سيدّعي لهم بأنه الوحيد القادر على منحهم الدولة التي طالما سعوا لإقامتها، وسيحذّر بأن الفرصة المتاحة معه سيصعب تكرارها، ويطلب منهم استغلالها. وبالتأكيد ستكون هناك ضغوط دولية وإقليمية على الفلسطينيين للقبول بعرض ترامب، على الأقل لمسك الخيط، وعدم إخراج أنفسهم من المسعى، مع إغداق المساعدات المالية والوعود بالمساعدة على تطوير رؤية الدولة لاحقاً. وبالتأكيد، ستكون عواقب الرفض الفلسطيني المزيد من الشُحّ في المساعدات المالية الدولية والإقليمية، وازدياد التهميش السياسي على مختلف الصعد والمحافل، وغضّ الطرف عن تصاعد حدّة إرهاب المستوطنين. وسيكون ربط وقف الحرب وإعادة إعمار غزة برؤية ترامب القادمة أمراً ضاغطاً بشدة على الجانب الفلسطيني.
إن تم لترامب ما يريد، فإن ذلك سيؤدي، بالنسبة له، إلى تحجيم دور إيران في المنطقة كتحصيل حاصل، إذ ستفقد السبب الداعي لاستمرار دعم المقاومة ووحدة الساحات، من جهة، وسيُنتج تحالفاً عريضاً وقوياً في المنطقة لصدّ استمرار تمددها. وإن تخلت إيران عن طموحها بامتلاك السلاح النووي، وكان هناك ضمانات فعالة لمراقبتها والتأكد من ذلك، فإن ترامب، على الأغلب، لن يمانع في تطبيع العلاقات معها، وضمها في مرحلة لاحقة لـ «الصفقة».
قد يعتقد البعض منا أن هذا التصور لما قد يقوم به ترامب بعد توليه الرئاسة، هو تصور خيالي ومبالغ به. ولكن يجدر الانتباه إلى أن ما قام به خلال فترة ولايته السابقة يؤشر بإيجابية على احتمالية قوية لأن يسير بهذا الاتجاه. كما وقد يعتقد البعض أيضاً، وخصوصاً بين ساسة الفصائل المخضرمة، أن لدى الجانب الفلسطيني القدرة الكافية لإحباط مثل هذا التوجه إن حصل. هذا هو الوهم الفلسطيني الدائم الذي نقلنا من تراجع إلى آخر، فهذا البعض لا يُشغل نفسه بالتفكير الاستراتيجي والبحث في تفاصيل الوقاية اللازمة لما هو قادم علينا في قادم الأيام، بل يستمر في الانهماك في ما يجيد عمله بامتياز، وهو الاستمرار في المناكفة الذاتية، من جهة، وانتظار فرج السماء الآتي من دون فعل ذاتي إيجابي، من جهة أخرى. وبين هذا وذاك، سيبقى الحال الفلسطيني، لشديد الأسى والأسف، يتعثر على نفس المنوال، يذرف الوقت في مطاحنة طواحين الهواء.